كتب

كتابة اليوميات بين البوح واستنطاق المكان في ‘حقيبة وذاكرة’

نجوى شقرون

مسعودة بوبكر ما انفكّت طيلة رحلتها إلى باريس وعلى كامل ردهات مؤلفها تعبّر عن مدى انتشائها وابتهاجها بما عاينت واكتشفت من مظاهر التحضر ومختلف الفنون.

 

يعتبر المؤلف الإنكليزي صامويل بيبس (1633/1703) أوّل من كتب اليوميات وقد صوّرت الحياة اللندنية في بداية حكم الملك شارلز الثاني ملك إنكلترا، ثم انتشرت كتابة اليوميات في القرن التاسع عشر بين أوساط الفنانين والأدباء وغيرهم ممّا وفّر للنقاد والمُنظّرين مدونة استطاعوا من خلالها ضبط شروط لهذا الجنس من الكتابة لعل أهمها كتابة التاريخ ومكان الحدث المُراد تسجيله، وهو شرط ضروري يُعدّ بمثابة الميثاق الأجناسي الذي يستبعد أشكالا أخرى شبيهة باليوميات كالمذكرات والسيرة الذاتية. وفي ذلك يقول المُنظّر الفرنسي فيليب لوجون معرفا اليوميات هي “سلسلة آثار مؤرّخة”. ولها شروط أخرى ضرورية من بينها مراعاة الترتيب والتسلسل الزمني في الكتابة. ومن خصائصها الأسلوبية إمكانية السرد باعتماد ضمير المتكلم أو ضمير الغائب مع ضرورة استخدام الوصف وبعض الصور التخييلية والتعبير عن الرأي الشخصي لتكون ممتعة وذات فائدة.

 

حقيبة وذاكرة” / استنطاق المكان:

صدر كتاب “حقيبة وذاكرة” لمسعودة بوبكر في 2023 بتونس عن دار سوتيميديا للنشر والتوزيع، ويضمّ 138 صفحة مُفتتحة بإهداء ومقدمة ومُذيّلة بفهرس وتعريف بالكاتبة ومؤلفاتها، وما بين المقدمة والفهرس مجموعة فصول مُعنونة تحمل أسماء شخصيات بعضها شرقيّ والبعض الآخر غربيّ كما تحمل أسماء أمكنة زارتها الكاتبة أثناء رحلتها إلى باريس وهي رحلة امتدت على خمسة عشر يوما استغلتها الكاتبة “لتملأَ العين والذاكرة ما أمكن”. وقد أعلنت عن جنس الكتاب “يوميات” بعد العنوان الذي قام على مركب عطفي يحيل على زاد المسافر (الحقيبة)، وعلى مرافقه الذي لا يفارقه في حِلّه وترحاله ونعني الذاكرة بإلماعاتها وما تهديه للكاتبة من متعة التجول والاكتشاف.

إضافة إلى عنونة الفصول ذيّلت الكاتبة كل فصل بتاريخ تأليفه ومكانه مستجيبة لأهمّ شرط أجناسيّ. كما حافظت على ترتيب الأحداث والتسلسل الزمني في سردها. فقد وضعت برنامجا لسفرتها والتزمت به متحررّة من نصائح ابنتها غادة بأن تكون الزيارة “للاستجمام والراحة لا تعب للعين ولا إجهاد للفكر”، فالكاتبة اجتمع لديها “الإحساس المُتّقـد بالفضول والانبهار مع  العقل المتأمّل والسؤال المتفحّص” وجدّدت عقدها مع الحياة.

كانت الرحلة إلى باريس موضوع يوميات الكاتبة التي زارت أماكن عديدة نذكر من بينها برج إيفل ومتحف اللوفر وحيّ لوماري ودُور العبادة، دون أن ننسى زيارتها لبعض الأنهج الخلفية في باريس فقد خصصت لكل موقع باريسيّ فصلا من الكتاب، متتبعة مظاهر الجمال وروعة الفن وعلامات التحضر… غير أن الرحلة لم تقتصر على عناصر المكان ومكوناته بل تحول هذا الإطار الحاضن للرحلة إلى قادح للذاكرة التي ما انفكت تستحضر أحداث الماضي وتعقد المقارنات بين الآن/هنا والماضي/هناك، بين الأنا والآخر، بين حضارتيْ الشرق والغرب، وأحيانا تتوسع مجالات المقارنة وتتأرجح بين الانبهار بالتّقدم ومظاهر الازدهار تارة والإدانة للآخر وكشف نفاقه وزيفه تارة أخرى، وبذلك ذوّبت الكاتبة عناصر المكان لتنصهر مع الإطار الزماني الذي تستدعيه الذاكرة للتأمّل والتفكير والمساءلة. و رغم أنّ الزمن الذي امتدت عليه كامل اليوميات لا يكاد يتجاوز نصف شهر إلا بقليل، فإنه جاء مفردا ولكن في عدة صيغ، فهو يتوزع على  أزمنة مختلفة متباينة بعضها يُحيل على أحداث تاريخية خطيرة غيّرت مصير وطن كامل. ويمكن هنا أن نحيل على الفصل الخامس الذي ذكرت فيه الكاتبة زيارتها لغاليري لافايات فقد استدعى المكان حدثا تاريخيا يعود بنا إلى سنة 1912 وهي السنة التي زار فيها باي تونس فرنسا لحضور تدشين هذا المعلم الحضاري ووقف مندهشا أمام السلّم المتحرّك. ص 35

وبذلك يستدعي المكان ـ إطارا حاضنا للرحلة ـ زمنا سابقا يتجاوز المدى الزمني للأحداث التي عاشتها الكاتبة ودوّنتها يوما بيوم، هذا الارتداد في الزمن لا يخضع إلا للذكرى ورغبة الساردة في استنطاق كل الأمكنة التي زارتها ومقارنة الحاضر بالماضي، فتأخذنا الرحلة في اتجاهين أحدهما يتتبع معالم المكان، والآخر يستدرج أزمنة سابقة للرحلة. كما نذكر مثالا آخر على تنوع الأزمنة التي يستدعيها المكان في يوميات مسعودة بوبكر يتمثل في زيارتها لساحة الكونكورد بباريس، عندما لاحظت شموخ المِسلّة الفرعونية الشهيرة وهي تقف شاهدا منفردا على حضارة مختلفة عتيقة من عمق التاريخ “اقتلعت من مهدها في الأقصر ومن رمال تُمشّطها ريح الصحراء إلى تربة تذرعها ريح الشمال الباردة”. ص 43

وإذا كان المكان عنصرا أساسيا في بناء اليوميات عامة، فإنه في كتاب “حقيبة وذاكرة” لمسعودة بوبكر يمثل العمود الفقري للكتاب من خلاله ترتحل عبر الأزمنة المختلفة وتقفز عبر حقبات من التاريخ القديم والمعاصر. ولكن البحث في الخصائص الفنية لهذا الأثر ودراسة علاقة التداعي أو الاستحضار القائمة بين المكان والزمان تستدعي وجوبا التساؤل عن سبب خضوع الكاتبة خضوعا شبه كلي لسلطة الذاكرة وخروجها عن الزمن الواقعي للرحلة. أليست الغاية من كتابة اليوميات هي اقتناص اللحظة الحاضرة وتقييدها بأسر الكلمات يخطها السارد يوقف بها الزمن ويُجمّد المشهد الماثل أمامه؟

لذا يمكن استحضار مقولة فيليب لوجون “ضع التاريخ واكتب ما تشاء”. كما يجدر التذكير بشرط مهمّ يجب توفره عند كتابة اليوميات وهو الكتابة بطريقة ناقدة لتصبح ممتعة وذات فائدة، فصاحب اليوميات يحسن به أن يصرح بذكر الغاية من كل شيء تمّ تسجيله، كما أنه مدعوّ إلى إبداء رأيه الشخصي وتصوير مدى تفاعله مع ما يشاهد ويعاين، لذلك تعتبر اليوميات جنسا أدبيا يتميز بالمرونة وتظهر فيه أنا الكاتب بصفة مباشرة ودون واسطة ومن أجل ذلك يقصدها القرّاء. وفي هذا السياق تقول الكاتبة والناقدة الأميركية سوزان سونتاغ “إننا نقرأها ـ تقصد اليوميات ـ بسبب شكلها الخام، نقرأ فيها الكاتب يتكلم باسمه”. وبالعودة إلى كتاب حقيبة وذاكرة نتبين مدى التزام الكاتبة بشروط اليوميات وخصائصها الفنية، فهي لم تخرج عن أبجديات الكتابة في هذا الفنّ، بل إنها استطاعت أن تعقد صِلات عديدة بين زمن السرد وأزمنة التذكر والاستحضار عبر ما وظّفته من أساليب  للكتابة جاءت مُكلّلة بأنماط متنوعة من الوصف والتصوير المشهدي والتخييل، هذا بالإضافة إلى سلاسة التعبير ووضوح اللفظ وقرب المعنى، وبفضل هذا الاختيار الفني أمكن لها مقارنة الحاضر بالماضي وقياس الغائب على الشاهد، فما هي دوافع كتابة اليوميات؟

اليوميات /بوح وتأمل:

ما انفكّت الكاتبة مسعودة بوبكر طيلة رحلتها إلى باريس وعلى كامل ردهات مؤلفها تعبّر عن مدى انتشائها وابتهاجها بما عاينت واكتشفت من مظاهر التحضر ومختلف الفنون التي تزخر بها مدينة باريس، تلك المدينة التي احتضنت منذ القدم عديد البعثات العلمية والدراسية والدبلوماسية. وقد استعرضت الكاتبة عدة أسماء لامعة زارت المدينة الأوروبية وانبهرت بها نذكر منها رفاعة الطهطاوي ومحمد السنوسي وأحمد بن أبي الضياف… فالغاية الأولى التي قصدت إليها وصرّحت بها هي البوح بالمتعة الفكرية والبصرية التي حظيت بها أثناء تجوالها في مدينة الأنوار والفنون، وفي هذا السياق استحضرت قولة شارل بودلار “لا بدّ أن تكون دائم السُّكْر..” تقصد السّكر بالتجوال، تطلق الخطو والعين لتحتضن الأمكنة وتستنشق عطر أسرارها الخفيّ.

فالدافع الأول للكتابة وقد جاء مُصرّحا به يتمثل في التعبير عن الذات وتصوير أثر المكان في الساردة، ومدى السعادة التي غمرتها وهي تقف أمام برج إيفل أو تتجول في منتزه لاغرافير بكولومب تراقب نهر السان “تلثم مياهه الطين والخضرة” ص 78.

أمّا الدافع الثاني لكتابة اليوميات، فهو التأمل وإبداء موقفها مما تشاهد وتعاين، وهو ما أكّده الاعتماد القويّ على الاسترجاع واستحضار محطات تاريخية سابقة لإطار الرحلة غايتها الدعوة إلى إعمال العقل والبحث في أسباب تقدم الحضارة الغربية واستجلاء مواطن القوة فيها دون التغافل عن كشف ما خفي من انتهاكاتها لحقوق بعض الشعوب التي كانت خاضعة لها تحت ربقة الاستعمار. لقد أثارت زيارتها إلى عاصمة الأنوار باريس عدة أسئلة وأشجان ازدحمت في قاع الذاكرة، فانفلتت من بين قيود السرد والوصف لتطرحها الكاتبة على كاهل المتقبل وتدعوه للتأمل والتمعن في التاريخ وتقلباته التي كثيرا ما كانت خاضعة “لهبوب ريح السياسة وحساباتها” ص 44 والمِسلّة الفرعونية خير مثال على ذلك وقد قالت عنها إنها “إرادة حاكم مشرقيّ يتودد إلى حاكم غربيّ”.

لقد تحولت كتابة اليوميات من “عمل واع لاستكشاف الذات” إلى سلسلة من المشاهد والأحداث التاريخية تستحضرها الذاكرة لتنبش في خفايا التاريخ لمحاسبة الجُناة والتذكير بجرائم الماضي من بينها أحداث معركة الجلاز بتونس في 1911 وقد استحضرت الكاتبة هذه الواقعة وهي تقف أمام مقبرة “الأب لاشاز” بفرنسا، تقف وقفة المتأمل المعتبر لتصل إلى جملة من الحقائق لعلّ أهمها أنّ صفحات التاريخ متشابهة وفي المقبرتين: الجلاز في تونس و”الأب لاشاز” في باريس “ينام الجميع في التراب وإن اختلف بهرج البناء” ص 102

فاكهة القول، والعبارة للكاتبة، هذه اليوميات رحلة بين أزمنة متعددة والمكان واحد، وهو يدعونا للسفر بين فصوله سفرا دون حقيبة، تكفينا الذاكرة.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى