«كتاب أسود»
كان كتاب «كفاحي» خلال العام 2016 واحداً من الكتب الأكثر مبيعاً في ألمانيا. بعد سبعين عاماً على صدوره، أضحى كتاب الفوهرر النازي أدولف هتلر، بلا حقوق ودخل ما يسمى الحيز العام. وكان معهد التاريخ المعاصر في ألمانيا سباقاً في إعادة إصدار الكتاب الذي ظل ممنوعاً منذ سقوط النازية، وارتأى أن تكون الطبعة الأولى هذه نقدية، مرفقة بشروح وهوامش بلغت 3500، والغاية منها وضع «البيان» النازي في سياقه التاريخي وفضح جنون صاحبه وإجرامه والحؤول دون تأثر الأجيال الجديدة بآرائه الكارثية. لكنّ إعادة نشر الكتاب «الأسود» في صيغته النقدية و «النقضية» سرعان ما أذكت سجالاً سياسياً شاركت فيه جماعات يهودية. وفي أوج هذا السجال نشرت مجلة «بوكس» الفرنسية الشهيرة ملفاً مهماً عن الكتاب والقضية وحمل غلافها صورة الفوهرر مع جملة اعتراضية: لماذا إعادة نشر «ماين كامبف»؟
بدت إعادة إصدار الكتاب في لغته الألمانية حدثاً بذاته، فهي أعادته إلى أصله وأعادت الأصل إلى الضوء بعدما راج الكتاب كثيراً في معظم لغات الأرض وأصبح «بست سلير» عالمياً. بات الكتاب متوافراً كما كتبه هتلر بيده وعصبيته، ولم تتمكن الشروح المناهضة لأفكاره والفاضحة إجرامه من خنق أنفاس الديكتاتور النازي. وقد تكون حملة الاعتراض على نشره في لغته الأم شبه مبررة وإن بدت موجهة يهودياً، وعلى مقدار من المبالغة أو الغلو. فالريبة من أن يمنح ظهور الكتاب الحركات اليمنية المتطرفة التي تشهدها أوروبا الآن، خلفية تاريخية وسياسية ويجعله مرجعاً مثلما في أيام النازية. قد تجد حركة «النازيين الجدد» وجماعة «سكينهادس» المتطرفة وموجات اليمين الأوروبي المتصلب في الكتاب ذريعة للتمادي في كراهية «الغرباء» أو «الآخرين» الذين يتمثلهم المهاجرون العرب والمسلمون، الذين تشغل قضيتهم أوروبا حكومات وشعوباً. والكتاب بطروحاته العنصرية الكريهة ليس بعيداً بتاتاً عن أيديولوجية «داعش» وسائر الأصوليات المتطرفة التي تحمل اسم الإسلام بهتاناً، والتي تمعن على الطريقة النازية في القتل الجماعي والإبادة. والكتاب أيضاً ليس غريباً عن مبادئ اليمين الإسرائيلي الأصولي وعن العقيدة الصهيونية التي احتل جيشها فلسطين وارتكب فيها مجازر ومحرقات.
ولئن ادعى بعض المفكرين أن كتاب «كفاحي» تخطاه الزمن وجرده من أيديولوجيته العنصرية والشوفينية وأفكاره الوطنية المارقة والضالة، فبعض آخر يرى أن الكتاب لا يزال مرجعاً معاصراً لحركات التطرف أياً تكن هويتها أو مشاربها. وفي هذا الصدد يقول رئيس تحرير مجلة «بوكس» في تقديمه الملف الشامل عن كتاب «كفاحي»: «ليس «كفاحي» فقط كتاباً ذا فائدة تاريخية كبيرة. هذا كتاب راهن وذو أثر في عالمنا المعاصر. وأن يتم تجاهله فهو كأن يتم تجاهل دعوات «داعش»: تخبئة الرأس تحت الجناح». ويلحظ أن هذا الكتاب هو رفيق رواد «القتل الجماعي» وأن نسخه الإلكترونية رائجة رواجاً رهيباً في كل اللغات من دون رقابة.
لم أستطع قراءة كتاب «كفاحي» كاملاً في ترجمته العربية التي أنجزها الصحافي لويس الحاج عن الفرنسية عام 1963، رئيس تحرير جريدة «النهار» طوال أعوام. قرأت فصولاً منه ووجدته فعلاً كما وجده سواي، كتاباً ملؤه الحقد والعنصرية والكراهية، وفيه تبرز الأيديولوجيا النازية المناهضة للحرية والسلام والداعية إلى القتل والإبادة. وفاجأتني كثيراً دعوة الفوهرر أيضاً إلى إبادة الغجر، علاوة على إبادة اليهود. ترى ماذا ارتكب الشعب الغجري كي يباد من الوجود، وهو شعب يحب الغناء والترحال مثلما علمنا الشاعر الإسباني القتيل فديريكو غارثيا لوركا في ديوانه «أغاني الغجر».
لم تكن ترجمة لويس الحاج هي الوحيدة لكتاب هتلر، وإن كانت هي الرائجة اليوم عربياً. ففي العام 1934، وفي أوج صعود الفكر القومي والوطني والنزعة اللاسامية، عمدت صحف عربية لا سيما في العراق، إلى ترجمة فصول من الكتاب، ثم تولى الكاتب المصري أحمد محمود الساداتي ترجمته كاملاً في القاهرة العام 1937، لكن الترجمة لم ترق الإدارة النازية فأوكلت مهمة إعادة صوغه إلى الكاتب شكيب إرسلان، «أمير البلاغة والبيان» خلال منفاه في جنيف، فأعمل فيه قلمه الرفيع. لكن الإدارة النازية لم ترض أيضاً عن الصيغة الإرسلانية، فغابت الترجمة ولم يتم تداولها وضاعت ربما. وقد يكون العثور عليها حدثاً كبيراً فقط لأن صانعها أو صائغها هو الأمير شكيب إرسلان، الأديب الرائد في حقل التأريخ والبلاغة.
صحيفة الحياة اللندنية