بلا حدود

كتاب الأمير بين مكيافيللي وساسة اليوم: حين يتجسّد الفكر القديم في واقع السياسة المعاصرة

ماهر عصام المملوك

قرأت كتاب الأمير لنيكولا مكيافيللي مرات عديدة في مراحل مختلفة من حياتي، وكنت أراه كل مرة كتاباً معقداً، مليئاً بالدهاء والواقعية السياسية الباردة.

غير أنني اليوم، وأنا أتابع ما يجري في عالم السياسة الحديثة، أجد نفسي أستوعبه كما لم أفعل من قبل. فكل ما كان يبدو لي مجرد تنظير قاسٍ أو فلسفة سلطوية بعيدة، بات اليوم مشهداً حياً يُعرض أمامنا على الشاشات، في المؤتمرات، وفي لغة الزعماء وتصرفاتهم. وكأن مكيافيللي، الذي كتب كتابه قبل أكثر من خمسة قرون، كان يصف زماننا هذا بحذافيره.

في كتابه الشهير، لم يكن مكيافيللي يكتب للأخلاق أو الفضيلة، بل للسلطة ولمن يريد أن يحكم ويبقى حاكماً. قال بوضوح إن “الغاية تبرر الوسيلة”، وإن على الأمير أن يكون أحياناً أسداً ليرهب أعداءه، وثعلباً ليتفادى فخاخهم. لقد صوّر السياسة كما هي، لا كما يجب أن تكون، واعتبر أن من يسعى للحكم عليه أن يتقن فن البقاء فيه مهما كانت الوسائل. ولعلّ هذا هو السر في خلود الكتاب، إذ لم يصف مرحلة معينة من التاريخ، بل وصف الطبيعة البشرية في علاقتها بالسلطة، وهي طبيعة لم تتغير رغم تغير الأزمنة.

ما يثير الدهشة اليوم أن هذا النموذج المكيافيلي يبدو وكأنه المبدأ السائد في إدارة شؤون العالم. فحين نرى زعيم أكبر دولة في العالم يتعامل مع بقية قادة العالم بنظرة فوقية واستخفافية، لا يسعنا إلا أن نتذكر نصائح مكيافيللي للأمير الذي يجب أن يُظهر القوة، وأن يتحدث من موقع التفوق، وأن يجعل الآخرين يشعرون بأن مصيرهم مرتبط برضاه. فطريقة هذا “الأمير المعاصر” في التعاطي مع رؤساء الدول، سواء في اللقاءات الرسمية أو في تصريحاته الإعلامية، تحمل في طياتها مزيجاً من التحقير المقصود والتصغير المتعمّد، وكأنها رسالة للعالم مفادها أن القوة لا تحتاج إلى تبرير، وأن الاحترام لا يُمنح بل يُفرض.

لقد أدركت الآن أن مكيافيللي لم يكن يدعو إلى الشر أو إلى الطغيان، بل كان يصف واقع السياسة كما هي في جوهرها: لعبة مصالح وصراع بقاء. وما نراه اليوم من تلاعب في العلاقات الدولية، ومن ازدواجية في المواقف، ومن انحراف في مفهوم العدالة، ما هو إلا تجسيد عملي لفلسفة مكيافيللي. فالدول العظمى التي ترفع شعارات الحرية والديمقراطية تمارس في الوقت ذاته أساليب الضغط والهيمنة والعقوبات الاقتصادية، وتتعامل مع الدول الضعيفة كأوراق تفاوض لا كشعوب لها كرامة وحق في تقرير مصيرها.

إن مكيافيللي كان واضحاً حين قال إن الحاكم لا يستطيع أن يكون محبوباً ومهاباً في الوقت نفسه، وإن عليه أن يختار المهابة إن اضطر لذلك. وهذا ما نراه اليوم في السياسة الأمريكية مثلاً، إذ تُبنى التحالفات وتُفك وفقاً لمصالح آنية لا أخلاقية، ويُستخدم الخوف كوسيلة للردع أكثر من الحوار أو الثقة. والسياسيون الذين يظنون أنفسهم “سادة العالم” لا يدركون أنهم بذلك يجسدون نسخة حديثة من الأمير الذي يعتقد أن كل شيء يدور في فلك قوته.

لكن ما يجعل هذا المشهد أكثر إيلاماً هو أن الشعوب نفسها باتت تقبل بهذا الواقع، وكأنها استسلمت لفكرة أن السياسة لا يمكن أن تكون إلا مكيافيلية. في زمن التواصل الفوري والانفتاح الإعلامي، ما زال العالم محكوماً بذات القواعد القديمة: القوة فوق الحق، والمصلحة فوق المبادئ، والخداع أداة مشروعة للبقاء. ربما كان مكيافيللي صادقاً حين كتب أن الإنسان بطبعه أناني وجاحد، وأن الحاكم الذي يريد البقاء عليه أن يستخدم هذا الطبع لا أن يحاربه.

غير أن ما أدهشني حقاً هو كيف استطاع مكيافيللي، قبل خمسمائة عام، أن يرسم صورة السياسي في المستقبل بدقة تكاد تكون نبوئية. فحين وصف كيف يتقلب الحاكم في مواقفه، وكيف يوظف الدين أحياناً والفضيلة أحياناً أخرى لتبرير سياساته، كان كأنه يتحدث عن خطابات زعماء اليوم. وحين تحدث عن أهمية السيطرة على الرأي العام عبر الخداع الممنهج، كان يصف ما تفعله اليوم المؤسسات الإعلامية الكبرى في صناعة “الحقيقة الرسمية” وتوجيه العقول.

لقد تحول الأمير من كتاب نظري إلى مرآة تعكس واقع السياسة الراهن. ففي كل أزمة دولية، وفي كل قرار جائر، وفي كل مشهد يظهر فيه الزعيم متكبراً أو متحدّثاً بلغة الإملاء على الآخرين، أرى فصول مكيافيللي تتجسد من جديد. بل ربما فاق الواقع اليوم تخيله، إذ أضحت التقنيات الحديثة والهيمنة الاقتصادية أدوات إضافية في يد “الأمراء الجدد” الذين يحكمون العالم بأسلوب أكثر نعومة في الشكل، لكنه أكثر قسوة في الجوهر.

اليوم فقط، بعد سنوات من القراءة والمراقبة، أدركت أن مكيافيللي لم يكن معلّماً للشر، بل كاشفاً له. لم يبتكر المكر السياسي، بل شرحه ووضع له لغة ومنهجاً.

وربما كان بذلك أكثر صدقاً من كثير من المفكرين الذين حاولوا تجميل السياسة بلباس الفضيلة. فالحقيقة التي يتهرب منها كثيرون هي أن السلطة بطبيعتها تفسد، وأن من يمسك بها ينسى سريعاً إنسانيته، ويستبدلها بغريزة السيطرة والبقاء.

إننا نعيش اليوم في زمن مكيافيللي جديد، لكن بملابس معاصرة، وشعارات براقة، وأجهزة إعلام تزيّن القسوة وتبرر الإهانة. وها هو الأمير القديم يعود من بين صفحات التاريخ ليجلس على عروش القرن الحادي والعشرين، يبتسم من بعيد، وكأنه يقول لنا: “لقد قلتُ لكم منذ البداية، لم ولن يتغير شيء في عالم السياسة، لأنها ليست علماً للأخلاق، بل فنٌّ للبقاء.”

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى