كتب

كتاب ‘الحرب الهادئة’ يحيط بخبايا التنافس الأميركي – الصيني

صلاح الدين ياسين

البروفيسور الأميركي نوح فيلدمان يتساءل في كتابه ‘الحرب الهادئة: مستقبل التنافس العالمي’ هل نحن على وشك حرب باردة جديدة؟

 إنه كتاب شيق فعلا من تأليف نوح فيلدمان المفكر والبروفيسور الأميركي بجامعة هارفارد، والذي يُعد من أنصار الحوار بين الحضارات ودعاة تبني نهج منفتح إزاء القوة الصينية الصاعدة. يسعى هذا الكتاب إلى الإحاطة بأبعاد وخبايا التنافس الدائر بين الولايات المتحدة الأميركية والصين لشغل موقع الصدارة في النظام الدولي. فما الذي يعنيه الكاتب بوصف “الحرب الهادئة” بين القوتين المتنافستين؟ وكيف يمكن فهم دوافع القيادة الصينية وسماتها المميزة؟ وما هي عواقب التنافس الدائر وتداعياته على ملامح النظام العالمي الجديد؟

دلالة الحرب الهادئة

إن التنافس الدائر حاليا بين الولايات المتحدة الأميركية والقوة الصينية الصاعدة لا يصح مقارنته بمنطق الحرب الباردة التصادمي، ذلك أن الحرب الهادئة الجديدة ولئن يطبعها تنافسٌ جيوسياسي واستراتيجي بين القوتين المتنافستين لقيادة النظام الدولي، فإنه من العصي تَجاهل الترابط والاعتماد الاقتصادي المتبادل بين أميركا والصين، حيث تُعتبر الأخيرة الدائن الأكبر لبلاد العم سام، كما أن الصين يعتمد نموها الاقتصادي، بهذه الدرجة أو تلك، على السوق الاستهلاكية الأميركية الواسعة، خاصةً إذا علمنا أن حوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي للصين يرتكز على التجارة، بخلاف ما كان عليه الحال إبان حقبة الحرب الباردة، إذ كان التعاون الاقتصادي بين القطبين المتنافسين (= أميركا والاتحاد السوفييتي) شبه منعدم.

إن الترابط والتعاون الاقتصادي المتبادل بين القوتين الأميركية والصينية يقلل من احتمالات الصراع العنيف بينهما، في ظل نظام اقتصادي وتجاري معولم قائم على حسابات دقيقة، وبالتالي من المرجح أن ينصرف الصراع بين القوتين إلى مجالات جديدة، وتحديدا الحروب السيبرانية، التي أمسى تأثيرها يفوق الحروب الكلاسيكية، لاسيما في ضوء عدم وجود قواعد دولية موحدة تنظم هذه النوعية من الحروب المستحدثة.

وإلى جانب ذلك، فإن ما يميز الحرب الهادئة الجديدة هو تراجع دور الإيديولوجيا كمحدد محوري للتقاطب، خاصةً بعد تخلي الصين عن شيوعية ماو التقليدية وتبنيها للنظام الرأسمالي على الطريقة الصينية. غير أن ما سلف لا ينفي وجود منظومتين فكريتين متمايزتين، إحداهما تنهل من قيم الليبرالية الغربية، والأخرى تتشبث بديكتاتورية الحزب الواحد كأساس للتنمية الاقتصادية، مع استحضار الأخلاقيات الآسيوية التقليدية التي تحث على الطاعة والانضباط.

ماذا عن القيادة السياسية الصينية؟

إلى جانب المرونة الإيديولوجية التي تتمتع بها القيادة الصينية المتمثلة في الحزب الشيوعي، فإنها تستند إلى النمو الاقتصادي كمقوم أساسي لشرعيتها، لاسيما في ضوء انتفاء انتخابات حرة وعدم إقرار الحقوق المدنية والسياسية الأساسية. هذا دون إغفال الحرص على إذكاء النزعة القومية الصينية، وهو ما يفسر سعي القيادة الصينية إلى ضم تايوان المجاورة، لكن ذلك المسعى يصطدم بالحماية التي تتلقاها الأخيرة من أميركا التي تخشى أن يضر فقدان تايوان بعلاقاتها مع الدول الحليفة لها في المنطقة (اليابان، كوريا الجنوبية… إلخ)، إذ ستبدو حينئذ بمظهر العاجز عن الوفاء بالتزام حماية أمنهم القومي، مما سيعرض مصداقيتها للخطر. غير أن الكاتب يتوقع أن تفلح الصين في استعادة الجزيرة دون الاضطرار لاستخدام قوتها العسكرية، في حال توصلها إلى القدر الكافي من الردع العسكري، وتقديمها لصيغة شبيهة بـ”دولة واحدة ونظامان” المطبقة في هونغ كونغ.

وفيما يخص البنية التنظيمية للحزب الشيوعي الصيني، فإن الترقي في المناصب القيادية والعليا يتطلب الانضمام إلى إحدى شبكات العلاقات الشخصية القائمة. غير أن ذلك لا يعني بأن النظام السياسي الصيني يكتسي طابعا مغلقا بالكامل، إذ توجد إمكانية للتداول على المناصب والمسؤوليات عن طريق عقد المؤتمرات الدورية للحزب، والتخلي عن المنصب بعد بلوغ سن محددة لإفساح المجال أمام الأعضاء الأصغر سنا. كما تسمح الحكومة الصينية بقدر محدود ومراقَب من النقد الشعبي، مما يتيح هامشا من المساءلة وممارسة الرقابة على المسؤولين المحليين.

وبالرغم من أن الصين لا تشارك الولايات المتحدة الأميركية معايير الليبرالية السياسية، فإن نظام التنخيب في كلتا الدولتين يعتمد على المزج بين استيعاب أصحاب الكفاءة وتوريث النخبوية (مثال عائلة بوش وكينيدي بالولايات المتحدة الأميركية). وبرأي المؤلف، فإن هذا النمط الهجين لفرز النخب يُعد أفضل نظام ممكن، ذلك أن النخب القائمة لديها حافز قوي للإبقاء على النظام قويا كي يجد أبناؤها موطئ قدم فيه بالمستقبل، كما أن إفساح المجال أمام أصحاب الكفاءة وإمكانية التداول على المناصب يحد من مشاعر الإحباط الشعبي التي قد تفضي إلى ثورات وانتفاضات عنيفة.

تداعيات الحرب الهادئة

إن الحرب الهادئة بين أميركا والصين ستولد حتما سعي كل طرف إلى كسب أكبر قدر ممكن من الحلفاء في صفه، إلا أن التحالفات الجديدة ستتجاوز منطق الحرب الباردة، لأنها لن تُبنى على منطق صفري “إما معنا أو ضدنا”، بحيث ستقتصر في الغالب على الأبعاد السياسية والاستراتيجية، بالنظر إلى الترابط الاقتصادي والتجاري الوثيق بين القوى الدولية الفاعلة. وكمثال على ذلك، تُعد الولايات المتحدة الأميركية الحليف العسكري الأقوى للدول المطلة على المحيط الهادئ (اليابان، كوريا الجنوبية، أستراليا…)، بينما تُعتبر الصين الشريك التجاري الأول لتلك الدول، وهو ما ينسحب أيضا على العلاقات الاقتصادية الوثيقة التي تربط الاتحاد الأوروبي بالصين.

ومن المتوقع أيضا أن يتأجج التنافس بين الطرفين حول المناطق التي تعج بالموارد الطبيعية والطرق الاستراتيجية للنقل والتجارة، إذ تحاول الصين إيجاد موطئ قدم لها في الشرق الأوسط للتزود بالطاقة الرخيصة عبر النافذة الإيرانية، في حين ما فتئت الولايات المتحدة الأميركية تستند إلى حلفائها التقليديين من دول الخليج العربي. كما أن الصينيين تمكنوا من بسط نفوذهم على القارة الأفريقية الغنية بالموارد، مستفيدين من عقيدتهم البراغماتية الخالية من أي نزعة تبشيرية أو استعلائية. وفي مواجهة ذلك، يقترح الكاتب على القيادة الأميركية إقامة رابطة عالمية من الديمقراطيات تضم أيضا الهند المتوجسة من الصعود الصيني بحكم المشاكل الحدودية بينهما.

وعطفا على ما سبق، من المتوقع إعادة الاعتبار للدور الذي تلعبه المنظمات الدولية (منظمة الأمم المتحدة، منظمة التجارة العالمية…) في خضم الحرب الهادئة، وعلى نحو خاص مجلس الأمن الذي تمتلك فيه الصين بدورها حق النقض، الشيء الذي قد يسهم في استتباب نوع من التوازن بين القوتين المتنافستين. كما أن هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات لن تكون مطلقة في ظل حاجتها إلى دعم حكوماتها القوية من أجل اختراق الأسواق المنافسة (كمثال على ذلك، بعد فشل رهان شركة غوغل على السوق الصينية الضخمة، ضغطت بشدة على حكومة الولايات المتحدة الأميركية لرفع شكوى أمام منظمة التجارة العالمية ضد الحكومة الصينية موظفة خطابا حقوقيا انتقائيا)، وبخاصة أن الشركات الصينية تعد أذرعا بيد الحزب الشيوعي الصيني الذي يحكم قبضته على مفاصل الدولة.

وفي الختام، لا يعتقد مؤلف الكتاب بأن الحزب الشيوعي الصيني لديه القابلية لإجراء إصلاحات ديمقراطية نوعية وفق المقاييس الليبرالية، فمن شأن ذلك أن يضعف من نفوذه المحلي وينذر بانهيار نموذجه في الحكم على شاكلة ما وقع في تجربة الاتحاد السوفييتي. غير أنه في المقابل، من المرتقب أن تؤدي النزعة الاستهلاكية المتنامية إلى تعاظم الميول الفردانية في المجتمع الصيني، وبالتالي مطالبات أكثر بتحسين أوضاع حقوق الإنسان. ومن جهة ثانية، يقر نوح فيلدمان بأن جميع أطراف الحرب الهادئة قد تخرج منتصرة شريطة تغليبها لحس التعاون والشراكة إزاء القضايا الملحة (الاقتصاد، أزمة المناخ، الحد من التسلح…)، فضلا عن الانكباب على تحسين رفاهية الشعوب بدلا من خوض الصراعات العنيفة والعبثية.

ميدل إيست أونلاين

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى