تاريخ

كتاب ديفيد هيل عن العـلاقات الأميركيّة ــ اللبنانيّة: هُزال التخصّص [2]

أسعد أبو خليل

لا يزال الحديث هنا عن كتاب ديفيد هيل الجديد، «الديبلوماسيّة الأميركيّة نحو لبنان: دروس في السياسة الخارجيّة والشرق الأوسط» (صدر الكتاب تزامناً في ترجمة عربيّة لكن هذه المراجعة تعتمد على النسخة الإنكليزية).

ليس سهلاً أن تكتب عن كتاب ديفيد هيل لا تقترحه على القرّاء، ومن الصعوبة بمكان أن تكتب عن كتاب سياسي تندرُ فيه الملاحظات الثاقبة أو التحليل المميّز أو الأسلوب الممتع، على أقلّ تقدير.

لكن الكتابة عن الكتب السيّئة هي مثل الفرض المدرسي الثقيل: تفعله مضطرّاً ولو لم تجد فيه أي متعة. الرجل (أي ديفيد هيل) ذو شخصيّة مملّة لا تمتلك معرفة أكاديميّة عن منطقتنا والسبب الوحيد لصعود ديفيد هيل السلّم الوظيفي في وزارة الخارجيّة الأميركيّة هو طاعته العمياء لمرؤوسيه وضعف شخصيّته التي لا تثير اعتراضات أو حساسيات وتقرّبه المُذلّ من اللوبي الإسرائيلي. لم يتميّز في أي وظيفة تسلّمها بغير نقل الرسائل، «من وإلى». هذا رجل شغل عدداً من الوظائف الديبلوماسيّة وليس في الكتاب أي قصّة أو حادثة تشدّك.

يكتب بلغة المحاسب. لكن في كتاب كتاب ديفيد هيل فوائد ترد عرضاً، من دون علم الكاتب ذي القدرات المعرفيّة والتحليليّة المحدودة جداً. فيفصح عن دوافع السياسة الأميركيّة في بلادنا من دون أن يشعر بذلك. هذا رجل أمضى سنوات في لبنان وأعرف زوّاراً للبنان كانوا أكثر فائدة في ملاحظاتهم عن البلد وسكّانه. لا أبالغ في تقريعي هذا وأدعوكم للتحقّق بأنفسكم. رجلٌ أمضى سنوات في منطقتنا ويعتمد في ملاحظاته على كتب منشورة عن لبنان أو مقابلات أجراها مع ديبلوماسيّين آخرين (أكثر فائدة منه في ملاحظاتهم).

كتاب ديفيد هيل

يتحدّث عن دوافع السياسة الأميركيّة ويقول، بدقّة، إن السياسات الأميركيّة نحو لبنان لم تكن يوماً لها علاقة بلبنان، وهذا صحيح. لكنه يضيف أن الاهتمام بلبنان كان ذا نطاق أكبر من لبنان. أو لعلّه يقول إنه كان ذا نطاق أصغر بكثير، مثل دعم حكّام فقدوا تأييد شعبهم (مثل شمعون في 1958) أو الانخراط في الحرب الأهليّة إلى جانب فرق الموت اليمينية الطائفيّة الانعزاليّة، لكنه يذكر القضايا الأكبر ومنها، طبعاً، «حماية إسرائيل» أو التصدّي لـ«السوفيات أو الفلسطينيّين أو السوريّين أو الإيرانيّين». يعترف أن لبنان وسيلة فقط وأن شعبه مجرّد وقود لحروب ومشاريع أميركا وحليفتها إسرائيل. لو أن اللبنانيّين يقرأون ذلك فيتّعظون ويقلعون عن فكرة أن أميركا تريد الخير لنا.

لا، لم يكتفِ هيل بهذه القضايا إذ يضيف إليها «أجندة الحريّة». هنا تدرك أن هوى الرجل هو يميني رجعي محافظ متطابق مع شلّة المحافظين الجدد وبوش الابن. أي خبير في شؤون الشرق الأوسط يضحك لو قلتَ له (أو لها) إن «أجندة الحريّة» هي واحدة من الدوافع الأميركيّة في سياساتها نحو الشرق الأوسط. أين نجد تجليّات هذه الأجندة؟ متى كان الطغيان في العالم العربي مزعجاً للإدارات الأميركيّة؟ لا، الطغيان يكون مزعجاً لو هو تصاحب مع سياسات معادية لإسرائيل وللمصالح الأميركيّة، والطغيان الموالي لأميركا أكثر ملاءمةً من الديموقراطيّات.

«نشر الحريّة»

الإدارة الأميركيّة (في عهد ترامب وبايدن) تداري وتراعي النظامين السعودي والإماراتي أكثر من أي وقت مضى لأنهما على علاقة جيّدة مع إسرائيل. ورغم أن النظاميْن باتا أكثر تشدّداً وظلماً من أي وقت مضى في تاريخ البلديْن. قضيّة «نشر الحريّة» تصلح في دعايات تنشرها أميركا في محطة «الحرة». التي تسوّق الأكاذيب والمصالح الأميركيّة (بروباغاندا صرفة) خارج حدود الولايات المتحدة (القانون هنا لا يسمح للمحطة بالبثّ هنا لأنها محطة بروباغاندا والحكومة تسمح لها بالكذب خلافاً للقانون حول قدرة الحكومة على الترويج لأكاذيب عن سابق تصوّر وتصميم للشعب الأميركي).

يعترف أن «أجندة الحريّة» كانت منفصلة عن «الحقائق اللبنانيّة». أي إن الحق على الشعب اللبناني لأن أميركا فشلت في نشر الحريّة عنده. الطريف أنه يتكلّم هنا عن أكثر البلدان العربيّة حريّةً قاطبةً. في لبنان حريّة لا توجد في إسرائيل. ليس هناك من مقدّسات أو محرّمات سياسيّة في لبنان (هناك طبعاً محرّمات دينيّة وطائفيّة كثيرة).

العـلاقات الأميركيّة ــ اللبنانيّة: هُزال التخصّص [2]

لكن ليس هناك من زعيم سياسي فوق النقد. ما يتعرّض له رئيس الجمهورية والحكومة ومجلس النواب في لبنان من نقد وشتم ظاهرة عناها سليم الحصّ في وصفه عن «الكثير من الحريّة» في لبنان.

لا يحتاج لبنان إلى مزيد منها بدعم أميركا. على العكس: إن أميركا في كل تدخلاتها في لبنان كانت تسعى إلى تقليص مساحة الحريّة في لبنان وذلك بهدف حماية إسرائيل. فرضت أميركا عبر حكم أمين الجميّل نظاماً طاغياً لمنع الأصوات المعارضة لاتفاقيّة السلام مع إسرائيل. لكن الكاتب يرى أن أميركا وجدت أرضاً خصبة لـ«أجندة الحريّة» في عام 2004 (لا يمكن لي أن أكتب العبارة من دون أن أبتسم ساخراً. هل يمكن أن كاتبها يأخذها على محمد الجدّ ويصدّقها؟ أم أن احتقاره للشعب اللبناني يبلغ درجة إهانة ذكائه؟). أي إن أميركا التي أرادت حماية إسرائيل من المقاومة في 2004 كانت تروّج للحريّة. أميركا كانت تريد من الدولة أن تقمع وتقتل كل من يقاوم إسرائيل. هذه هي أجندة الحريّة. هي حريّة إسرائيل في قتلنا.

كتاب ديفيد هيل – الاستعانة بكليشيهات تقليدية و معلومات تاريخيّة عن لبنان

يفتقر المؤلّف إلى معلومات مفيدة أو ملاحظات قيّمة فتجده يستعين بكليشيهات تقليدية عن لبنان. يعلِمنا ديفيد هيل، مثلاً، سوريا وإسرائيل تحدّان لبنان جغرافيّاً وأن موقعه أعطاه أهميّة في أوقات معيّنة. لم نكن نعلم ذلك ونشكر التدريب الديبلوماسي الأميركي كي يتسنّى لنا قراءة هذه الملاحظات عن بلدنا. أما معلوماته التاريخيّة عن لبنان (وهي مستقاة من كتب درجة ثانية وثالثة وعاشرة)، فهي ببساطة خطأ وجاهلة. يقول مثلاً إن فرنسا أضافت الأقضية الأربعة لأن الموارنة (كان عليه قول زعماء الموارنة والكنيسة) أرادوا ذلك من أجل المصلحة الاقتصاديّة للوطن الجديد جداً (ويرد هذا الخطأ مرتيْن في الكتاب الرتيب). على العكس من ذلك، كان زعماء الموارنة والبطريركيّة يريدون كياناً مسيحيّاً (وطناً مسيحيّاً منعزلاً). لكن الحكومة الفرنسية أقنعت حلفاءها بأنه ليس من مصلحة اقتصادية في عزل جبل لبنان عن الأقضية الأربعة.

ويقول، جاهلاً أيضاً، إن الميثاق الوطني في عام 1943 أعلن لبنان دولة عربيّة فيما كانت الصيغة يومها أن «لبنان ذو وجه عربي» في إيحاء أن الجسد اللبناني يبقى أوروبياً بحكم الوالدة الحنون للوطن الفتيّ. أجزم أن المؤلّف لا يعلم عن الميثاق الوطني وإن كان سمعَ عنه في حفلات عشاء في السفارة الأميركيّة مع نخبة 14 آذار المسلّية. يظنّ مثلاً أن النظام اللبناني قبل الطائف كان يمنح الموارنة الأرجحيّة السياسيّة مع ضوابط سياسية ورقابيّة للمسلمين. في الحقيقة، لم يكن هناك أي ضوابط من قبل المسلمين في النظام اللبناني.

إذعان المسلم للماروني

كان الرئيس الماروني حاكماً مطلقاً يفعل ما يشاء من دون استشارة رئيس الحكومة. كل القصص التي تروى عن ثنائي بشارة الخوري-رياض الصلح لم تكن تعني أكثر من إذعان المسلم للماروني في الثنائية. ولو تمرّد المسلم، يستبدل بمطيع غيره. الأزمة الكبرى التي وقعت في النظام اللبناني في عام 1973. أن صائب سلام تمرّد على فرنجية وتضامن معه المسلمون واليسار فلم يستطع فرنجيّة بسهولة استبدال سلام. ووقعت الواقعة. حاول أمين الحافظ أن يقبل التكليف فكان أن نبذه التحالف الذي جاء منه.

ويسقط هيل مصطلحاً دستورياً أميركياً عن توازن علاقة التعاون والرقابة والمعارضة بين الكونغرس والبيت الأبيض. على العلاقة بين المسلمين والمسيحيّين في لبنان قبل الحرب. عندما لم يكن للمسلمين أي سلطة سياسية غير مستقاة من زعيم ماروني (كان لكل زعيم ماروني تشكيلة من زعماء صغار. سنة وشيعة ودروزاً أيضا. كي يختار منهم مَن يشاء. هل كان لكاظم الخليل سلطة على كميل شمعون؟ أو سامي الصلح على شمعون؟ أو رشيد كرامي على فؤاد شهاب؟). ويعمِّم هيل عن الطوائف في لبنان فيقول إن الموارنة «محافظون وغربيّو التوجّه ومتوجّسون من الوحدة العربيّة». بشحطة قلم شمل كل موارنة لبنان في إطلاقه.

كتاب ديفيد هيل – مرحلة الإرساليّات والقناصل

ويتحدّث عن مرحلة الإرساليّات والقناصل فيقول إن المُبشّرين الأميركيّين أرادوا دوراً لبواخر البحريّة الأميركيّة كما أرادوا فتح قنصليّة في بيروت. جاسبير تشاسو افتتح أول قنصليّة في بيروت في عام 1832 ويبدو من وصف هيل له أنه كان محتالاً (لم يكن يحمل الجنسيّة الأميركيّة). ويتكلّم هيل عن مرحلة استقلال لبنان فيزيد من عنده أن تحالفاً أميركياً-إنكليزياً هو الذي انتزع استقلال لبنان. طبعاً، الكلام اللبناني عن انتزاع لبنان لاستقلاله بنفسه ينتمي إلى مرحلة زمنيّة كان يجول فيها الأمير فخر الدين ويصول على مسرح مهرجانات بعلبك.

بريطانيا هي التي ولّدت استقلال لبنان لكن هيل أضاف دوراً أميركياً غير موجود. هو يسقط دوراً أميركياً على مرحلة كانت أميركا فيها غائبة عن الصورة. ويعتمد على وثائق ديبلوماسيّة أميركيّة لوصف مرحلة الاستقلال اللبناني فينقل عن الجنرال ديغول قوله إنه يعارض منح اللبنانيين والسوريّين استقلالهم قبل أن «يتحضّروا له» (ذهنيّاً؟ أم فولكلورياً؟ لا ندري ما قصد الجنرال الذي لا يزال الكثير من اللبنانيّين يحنّون إليه حنوّ الولد نحو الأم).

ديغول- «إن وقت استقلالهم لم يأتِ بعد وقد لا يأتي قبل سنوات»

لكن ديغول يصدِر حكمه في حديث مع ديبلوماسي أميركي فيقول له: «إن وقت استقلالهم لم يأتِ بعد وقد لا يأتي قبل سنوات». هكذا كان ديغول ينظر إلينا، فيما نحن نذكره بخير كبير. ينقل عن الديبلوماسي الأميركي الأرفع في بيروت من عام 1943 قوله. إن هناك مخاوف أربعة عند اللبنانيّين: «الإمبريالية الفرنسية والخبث البريطاني والانعزال الأميركي والتوسّع الصهيوني» (لافت أنّ المخاوف من التوسّع الصهيوني سبقت إنشاء دولة إسرائيل). لا نعلم إذا كان هذا النقل للديبلوماسي الأميركي دقيقاً خصوصاً أن ذلك يشير إلى تعطّش لدور أميركي. لكن أميركا يومها لم تكن قد تلوّثت بعد (عند العرب) بسياسات ما بعد الحرب العالميّة الثانية التي علّمت العرب عن أميركا ما لم يكونوا يعلمونه من قبل.

ويتحدّث بعاطفة وحنان عن دور الجامعة الأميركيّة في بيروت فيقول إنها «نشرت التفكير والمناهج الأميركية وعلّمت أجيالاً متعدّدة من النخب في كل العالم العربي». يكفي أنها خرّجت لهم فؤاد السنيورة وشارل مالك كي تنال إعجابهم الشديد. ويعجز هيل عن الاستغناء عن التعابير الاستشراقية فيقول إن الجامعة الأميركية خلقت «واحة من الحريّة الثقافيّة في صحراء من الطغيان». لم يقرأ هيل عن تجربة انتفاضة داروين (كتب عنها عدد من الكتب في السنوات الأخيرة) عندما انتصر السكان المحليّون لحريّة التعليم والتعبير فيما عارضت الجامعة نفسها تلك الحريّات وقمعتها (هذا ما جعل إمكانية بقاء العالِم كورنيليوس فان دايك في الجامعة مستحيلة).

(يتبع)

صحيفة الأخبار اللبنانية

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى