تاريخ

كتاب ديفيد هيل عن العلاقات الأميركيّة – اللبنانيّة: هُزال التخصّص [1]

أسعد أبو خليل

تغيّرت كثيراً نوعيّة الدبلوماسيّين الأميركيّين في منطقتنا العربيّة. بعيداً عن السياسة وأحكامها، كان المستعربون هم الممثّلين المتخصّصين للسياسة الأميركيّة في منطقتنا. لم يصنعوا السياسة (وإن ساهموا بدرجة أو بأخرى) بل كانوا ينطقون بتوجّهاتها ويسوِّغونها وينفّذون ما يأتيهم من أوامر عليا من النخبة السياسيّة في واشنطن.

 

كُثُرٌ منهم كانوا يعملون في منظّمات تناصر الحقّ العربي لكن في سنوات تقاعدهم. النوعيّة الحاليّة من الدبلوماسيّين الأميركيّين تختلف جذرياً عن فئة المُستعربين. على الأقلّ، كان الدبلوماسيّون مدرّبين تدريباً معرفيّاً استشراقياً، بمعنى أنهم كانوا يتعلّمون اللغة العربيّة ويدرسون الثقافة والمجتمع في العالم العربي.

وكانوا جميعاً ملمّين بتاريخ القضيّة الفلسطينيّة والصراع العربي-الإسرائيلي. عرفتُ بعض هؤلاء الدبلوماسيّين المعروفين بعد تقاعدهم في واشنطن: مثل ريتشارد باركر (عمل سفيراً في لبنان في أواخر السبعينيّات) وبول هير وبول كيلي وريتشارد كرتيس وأندرو كلغور، والتقيتُ بريتشارد ميرفي، عميد المستعربين في زمانه، وكان يتحدّث العربيّة بلهجة سوريّة.

كان التحدّث باللغة العربيّة من متطلّبات الوظيفة، ولم يعد كذلك. لا أذكر آخر سفير أميركي كان يتحدّث بالعربيّة (قد يكون ريتشارد باركر الذي كان يحرّك الأبيات الشعرية في قصائد المتنبّي). دبلوماسيّو اليوم بالكاد يعرفون لفظ كلمة «فلافل» أو «شكراً» (السفيرة دوروثي شيا لم تستطع تعلّم لفظ كلمة شكراً فيما السفيرة الحالية تتكلّم بعض البرتغاليّة).

كان المستعربون معادين للوبي الإسرائيلي ومواقفه (وذلك لألف سبب وسبب، منها ارتباط الكثير منهم بمصالح خليجيّة عندما كانت أنظمة الخليج معادية للوبي الإسرائيلي، كما أن بعضهم كان يعاني من معاداة ضد اليهود واليهودية، مثل أندرو كلغور الذي كان من مؤسّسي المنظمة التي أصدرت نشرة «تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط»).

حقبة الثمانينيات والتسعينيّات شهدت صعود اليمين الأميركي وازدهار اللوبي الإسرائيلي وخصوصاً ذراعه الفكريّة، أي «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى». شُنّت حرب شعواء ضد المستعربين وانقرضت الظاهرة وأصبح كل السفراء بحاجة إلى رضى ومباركة اللوبي الإسرائيلي. أصبح الدبوماسيّون الأميركيّون العاملون في شؤون الشرق الأوسط أقلّ تعليماً وتدريباً وتعاطفاً مع قضايا الشعب العربي.

الكلّ يريد «السترة» (أي الحفاظ على علاقة ودّية مع اللوبي الإسرائيلي لغايات الترقّي والصعود ولضمان وظيفة محترمة في العاصمة بعد التقاعد المبكِّر للكثير منهم). أصبح التمكّن من اللغة العربيّة نادراً كما أن النهم في متابعة شؤون الشرق الأوسط والثقافة العربيّة بات من مخلّفات الماضي السحيق. المطلوب هو التحدّث عن الشرق الأوسط بكليشيهات لا تزعج اللوبي الإسرائيلي.

رأيناهم في لبنان: من جيفري فيلتمان إلى السفيرة الحالية. ليس فيهم من يُمكن اعتباره خبيراً ضليعاً في شؤون السياسة والثقافة في العالم العربي (كما ريتشارد ميرفي أو ريتشارد باركر). صحيح، كان جيفري فيلتمان من أذكاهم لكن ذلك يعود لقدرته على كتابة تقارير سياسية تحليلية تتّسق مع توجّهات الإدارة. لم يكن خبيراً بالمعنى الأكاديمي. عصيت عليه بضع كلمات من اللغة العربيّة تعلّمها عبر السنوات.

فيلتمان استطاع تسخير السياسة في لبنان لصالح أجندة اللوبي الإسرائيلي ولهذا كوفئ من قبل مرؤوسيه. الذين خلفوه كانوا أقلّ كفاءة منه. لكن حتى فيلتمان: تعرّفنا إليه من خلال وثائق «ويكيليكس» ووجدناه شخصاً لا يمكن اعتباره خبيراً في شؤون المنطقة. يتحدّث كرجل سياسي زائر يحاول إخضاع الموالين له في 14 آذار لصالح الأجندة.

كان هو المُسيّر والمُخطّط والمهندس، يزورونه لتلقّي الأوامر والتعليمات. ويظهر جانب آخر منه: الضعف والانبهار بالمال. يسأل في وثيقة نجيب ميقاتي عن سكنه في موناكو وإذا كان يقيم في فندق أو في منزل خاصّ به. ليس هذا من صنف المستشرقين أو العارفين.

يروي عن بعض محادثاته مع السياسيّين اللبنانيّين، وتتعلّم منه ما نعلمه علم اليقين: أنهم مجرّد أدوات للسياسة الأميركيّة وأنهم يستجدون الأوامر كي ينفّذوها

 

مناسبة هذا الحديث هو صدور كتاب ديفيد هيل «الدبلوماسيّة الأميركيّة نحو لبنان: دروس في السياسة الخارجيّة والشرق الأوسط» (صدر الكتاب تزامناً في ترجمة عربيّة لكن هذه المراجعة تعتمد على النسخة الإنكليزية). ليس هناك من معلومات شخصيّة عن المؤلّف أو عن ذكريات دبلوماسية في الكتاب تحت المراجعة.

هيل درس في «السلك الخارجي» في جامعة جورج تاون (تخرّج في السنة التي انضممتُ فيها إلى الجامعة) ولم ينل شهادة عليا. يقول عن نفسه إنه يتحدّث العربيّة لكن الذين تعاطوا معه لا يذكرونه يخوض في محادثات بالعربيّة. أصبح سفيراً في لبنان وباكستان والأردن ووصل إلى أعلى مرتبة في السلّم الإداري للسفراء في وزارة الخارجيّة.

الذي ساهم في صعوده هو الطاعة والانصياع بصرف النظر عن الإدارة. يكفي أنه عمل مساعداً لوزير الخارجيّة لشؤون الشرق الأدنى في إدارة ترامب وتحت سلطة وزير الخارجية، مايك بومبيو. أي إن الرجل لا يشعر بأي جاذب أو تعاطف مع الشعب العربي وقضاياه.

أسلوب الكتاب هو مثل شخصيّة الرجل: مملّ ورتيب وله من سحر الكلام ما نجده في كتيّبات التعليمات للغسّالات والبرّادات. لغة جافّة تعتمد الوصف التقريري والقليل من التحليل. ليس هناك من أي فكرة مبتكرة عن منطقتنا، وليس هناك من ربط ذي جِدّة بين أحداث المنطقة.

هناك سرديّة مستقاة من المراجع التقليديّة ذات التوجّه المحافِظ. تقرأ الكتاب وتدرك أن الانحدار في مستوى الدبلوماسيّين الأميركيّين في منطقتنا هو (هنا نظريّة المؤامرة) من نتائج عمل اللوبي الإسرائيلي. الإعداد الكثيف للخبراء في وزارة الخارجيّة كان يؤدّي بالتأكيد إلى تخريج أفراد ملمّين بالقضيّة الفلسطينيّة ومتحدّثين بلغة العرب. ديفيد هيل كان يمكن أن يكون سفيراً في أي بلد في العالم، وكان سيأتي بالنتائج نفسها في الطاعة (السفيرة الأميركيّة الحاليّة كانت سفيرة في نامبيا قبل لبنان).

عمل ديفيد هيل مساعداً لريتشارد مورفي لكنه لم يتعلّم منه شيئاً. ميرفي (كما أخبرني) لم يكتفِ بدراسة العربيّة في مدرسة شملان الشهيرة بل تبعها بالدراسة في حلب حيث تحوّلت لهجته العربيّة إلى سوريّة حتى في سنواته الأخيرة (هو لا يزال حيّاً وعمره 95 سنة). يروي هيل قصّة «ميخائيل الضاهر أو الفوضى» (وكنتُ قد سمعتها من قبل من مورفي) ولا يضيف أي شيء جديد على القصّة التي باتت معروفة. السياسة الأميركيّة يومها كانت متناغمة مع السياسة السوريّة. تقرأه يصف دور مورفي من دون تقييم أو تعليق. حتى العبارة الشهيرة «ميخائيل الضاهر أو الفوضى» كتبها بالإنكليزيّة.

لا يمكن قراءة الكتاب من دون الوصول إلى قناعة بأن هذا الرجل (أي هيل) عنصري حتى العظم وجبان سياسيّاً لأنه لا يزال يخاف الحيْد عن أي ثوابت سياسات ومواقف ومصطلحات اللوبي الإسرائيلي. تتيقّن من قراءة الكتاب ومن اللغة السياسيّة فيه، أن هيل لا يزال يطمع بدور ما في إدارة سياسية مستقبليّة، ولهذا فإنه يعدّ العدّة ويمضي في رحلة الانبطاح للوبي الإسرائيلي. يذكر عرضاً ودائماً «الإرهاب الفلسطيني» ولا يتوقّف البتة أبداً للحديث عن إرهاب دولة إسرائيل.

يذكر اغتيال عباس الموسوي ولا يعنيه أبداً قتل زوجته وابنه. ضحايا العرب لا يعنون هذا الرجل الذي يعتبر أن حياة الناس تُقاس بالدين والعرق. هيل يمثّل العنصريّة الأميركيّة التاريخية بأبهى مظاهرها.

يروي عن بعض محادثاته مع السياسيّين اللبنانيّين، وتتعلّم منه ما نعلمه علم اليقين: أنهم مجرّد أدوات للسياسة الأميركيّة وأنهم يستجدون الأوامر كي ينفّذوها. يتحدّث عن انتخابات 1992 ويقول إن نواب المعارضة أتوا إليه كي يأخذوا التعليمات (أثناء تناول وجبات الطعام في السفارة، كما يروي – لقد تمنّعت عن ذكر عدد الصفحات لأن النسخة التي في حوزتي هي نسخة إلكترونية لا تعتمد عدد صفحات النسخة المطبوعة).

يقول إن الناس في السعوديّة والبحرين وتونس والأردن كانوا يقترحون على الدبلوماسيّين الأميركيّين ما يجب فعله فيما كان الساسة في لبنان يسألون الدبلوماسيّين الأميركيّين ما يجب عليهم فعله: يريدون التعليمات والأوامر. وعندما لم تكن الأوامر تأتيهم كانوا يضطربون. وأفهمه الدبلوماسي الأعلى رتبة منه، ريان كروكر، أن عليه إعطاء الأوامر والتعليمات للساسة والتدخّل في الشؤون الداخليّة للبلد. شجّعت السفارة الأميركيّة الموارنة على المشاركة في الانتخابات اللبنانيّة في عام 1992 لكن معظم الموارنة قاطعوها. يذكر هيل عرضاً مجزرة قانا ولا يتوقّف عندها كما يتوقّف أمام قتل أي إسرائيلي.

وفي الوقت الذي كان لبنان يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي ويعاني من عدوانه المستمرّ ومن مجازر متوالية، يزهو هيل عن سنوات خدمته بأنه عندما أصبح سفيراً لأميركا في لبنان فإنه عمد إلى تقديم «دعم قوي» للجيش اللبناني لمواجهة «التطرّف التكفيري». كل هذا الدعم القوي للجيش اللبناني لم يحوّل الجيش إلّا إلى جهاز شرطة بأسلحة بدائيّة تتمتّع دوائر الشرطة في المدن الأميركيّة بأفضل منها.

يتأوّه هيل ألماً عندما يتحدّث عن انفجار المرفأ وعن زيارته للموقع. تأثّر من رؤية الناس ولامَ (في الانفجار) «إهمال وفساد» زعماء لبنان من دون أن يعترف بأن هؤلاء الزعماء هم أصدقاؤه وهم يتلقّون التمويل الأميركي على مواقفهم. هيل هذا هو الذي أصرّ على أن لا دلائلَ على فساد رياض سلامة، وفي عزّ الانتفاضة على المصرف زاره وتناول الغداء معه كي يُسجِّل ثقة الإمبراطوريّة الأميركيّة العليّة به. وخلافاً لمزاعم حلفاء أميركا (وإسرائيل) في لبنان (من أحزاب وقادة انعزاليّين ومن شخصيّات معادية للمقاومة) لا يتّهم هيل (الشديد العداء للحزب وحلفائه) حزب الله في انفجار المرفأ.

هو يقول (وهو على الأرجح على حقّ) إن الانفجار كان نتيجة حادث لا مؤامرة تفجير. لكنه يتساءل عن سبب تخزين هذه الكميّة الكبيرة من المتفجّرات، ولعلّه—لو سُمح له بسبب حماية المعلومات السرّية—يصارحنا بعلاقة المؤامرة الأميركيّة (بالتعاون مع أجهزة لبنانيّة) لتقديم السلاح للمعارضة السوريّة المسلّحة.

يريد هيل تحقيقاً في الأمر لكنه لا يذكر أن الحكومة الأميركيّة هرّبت على عجل مسؤول أمن المرفأ، محمد زياد العوف، خارج لبنان في حماية أميركيّة. ولا يذكر المتعاقد العسكري الأميركي الذي كان يجول في حرم المرفأ ودوّن وجود كميّة المتفجّرات وأرسلها في تقرير سبق الانفجار إلى حكومته التي لم تبلّغ الحكومة اللبنانية عن فحواه.

هيل كتب الكتاب لجمهور يجهل حقيقة السياسة الأميركيّة أو هو يتوجّه بالكتاب إلى جمهور جاهل في مكان ما. لكنه تعاقد مع مترجم لبناني لنشر الكتاب بالتزامن مع النشر الإنكليزي الذي لن يجلب أي اهتمام أو تغطية. هذا من أقلّ الكتب المنشورة نفعاً عن لبنان وقراءته للتاريخ اللبناني المعاصر (كما سنرى في حلقة مقبلة) مغلوطة ومخادِعة.

(يتبع)

صحيفة رأي اليوم اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى