لا يزال الحديثُ هنا عن كتاب ديفيد هيل الجديد، «الديبلوماسيّة الأميركيّة نحو لبنان: دروس في السياسة الخارجيّة والشرق الأوسط» (صدر الكتاب تزامناً في ترجمة عربيّة لكن هذه المراجعة تعتمدُ على النسخة الإنكليزية).
الطريف في حكاية هذا الكتاب الذي ينمّ عن جهل مطبق لمؤلّفه، أن الرجل (وهو متقاعد) لا يزال يظهر على الشاشات اللبنانيّة (مقابل تمويل طبعاً) ويسألونُه عن رأيه في تفاصيل الحياة السياسيّة اللبنانيّة. يسألونه: كيف تريدنا أن نرضي إسرائيل؟ ما هي درجة الانحناء التي تقترحها لنا نحوه؟ وفي حديث هيل اللئيم عن إميل لحّود يزيدُنا من حبّنا له وتعلّقنا بشخصيّته المميّزة بسبب كراهيته الشديدة له. يسخر حتى من حبّه للسباحة كأن الرياضة نقيصة من النقائص. يعترف أن لحّود عرقلَ السياسات الاقتصاديّة لرفيق الحريري، الحليف الوثيق للإدارات الأميركيّة الصهيونيّة المتعاقبة. يختصر سياسة الحريري الاقتصادية بعبارة «ابنِ وهُم سيأتون»، من دون اعتبار للديون التي راكمها من جراء مشاريعه. لا يقول مثلاً إن الحريري هذا، أي صديقهم، كان فاسداً، بل يقول إنه اتُهم بالفساد. يدافع عنه بالقول إنه لم يكن لديه خيار آخر غير الفساد لمصلحة لبنان (هذه هي أميركا التي أقنعت بعض اللبنانيّين أنها تفرض عقوبات على الناس بسبب فسادهم). ويصف الحريري بأنه «الأمل الأساسي الأميركي للبنان بسبب اعتداله وميله الغربي والرأسمالي». ويقول إن موت الحريري كان خسارة لأميركا وإنه كان ثابتاً في شراكته مع الأميركيّين والحفاظ على «التوجّه الغربي» للبنان. ويصف سليم الحصّ بالعنيد، ربما لأنه لم يكن ينفّذ الأوامر الصهيونيّة من واشنطن. ويقول الجاهل صاحبنا إن الحصّ تلقّن الفكر اليساري من «سيانس بو» وجامعة باريس في فرنسا (الحصّ لم يدرس في فرنسا: درس في الجامعة الأميركيّة في بيروت ثم جامعة إنديانا). أمّا عن فساد حلفاء الحريري، فقال في ذلك: لم يكن هناك من أدلّة. يعترف أن الحريري لم يكن قدّيساً (بجد؟) ولكنه يستنكر أي إدانة أو نقد له. وليس صحيحاً ما قاله عن أن سوريا طلبت استقالة الحريري واستبداله بعمر كرامي. الأمر جرى بين لحّود والحريري. يزهو بتسمية «ثورة الأرز» عن الهمروجة الطائفيّة بعد اغتيال الحريري. ويعترف أن شركات علاقات عامّة أشرفت على تنظيم 14 آذار (لكن لا يعترف أن أميركا أسهمت في التمويل مع السعوديّة).
يعترف أن أعمال المقاومة في الجنوب أثّرت على سمعة الجيش الإسرائيلي. اعترف باراك أن بقاء الجيش في لبنان سيعرّضه لمزيد من أعمال المقاومة. أمّا عن الخط الأزرق، فيكرّر الكذبة المعروفة أن الأمم المتحدة أقرّت الخط الأزرق كأن الأمم المتحدة هي التي تحكم في الحدود بين الدول (هذه بدع يضحك فيها الأميركي على اللبنانيّين ويصدّقها بعضهم إذا كانت أوامر صهيونيّة). الطريف أنه يستشهد بشهادة تيري رود لارسين (المتورّط في عدد من الفضائح الجنسيّة والماليّة) وأنه أشرف على تطبيق القرار 425 كأن إسرائيل انسحبت بسبب القرار وليس بسبب عنف المقاومة. خاف هيل على مصير جيش لحد بعد انسحاب جيش العدوّ من لبنان. يقول إن بشار الأسد اعترف لفريدريك هوف في آذار 2012 أن مزارع شبعا هي سوريّة (المصدر في هذه الخبريّة هذه هو الصهيوني، هوف، نفسه. ما القصّة في هذا الغرب؟ يزعمون دائماً أن أعداءهم يسرّون إليهم بمكنوناتهم؟) لكنه يقرُّ أن الحزب لم يعد «فقط وكيلاً عن إيران وسوريا»، بل إنه أصبح حزباً مرتبطاً «بعمق مع الهويّة اللبنانيّة الشيعيّة المحليّة» (أنصف الحزب في التوصيف أكثر من حلفاء أميركا في لبنان من الذين ينفون صفته اللبنانيّة). وفي تشريحه للوضع يعتمد على شهادة أكاديمي لم يدرس لبنان أبداً.
عن الشرق الأوسط، يقول الرجل القليل المعرفة وبلغة استشراقية محضة: «الشرق الأوسط معطوب من كل الزوايا الموضوعيّة. إنه محكوم من أمراء وديكتاتوريّين عسكريّين ورجال دين». باستثناء إيران، كل هؤلاء الطغاة هم حلفاء أميركا. يقول إن مشروع بوش كان من أجل «نشر الحريّة للعراقيّين». كم كلّفت من دماء العراقيّين هذه الحريّة. ويصف سكّان الضاحية بـ«المستوطنين». يقول عن حرب تمّوز إن بيانات الحكومات العربيّة كافّة صبّت في نقد علني لحزب الله. غير صحيح، طبعاً. كان هناك بيان يتيم من «مصدر سعودي» في نقد الحزب لكن السعودية، واعية للرأي العام العربي والسعودي تحديداً، عادت وغيّرت مسار بياناتها بعدما تبيّنت أن الحزب لن يُهزَم. يقول إن كونداليزا رايس كانت حريصة على عدم إيذاء حلفاء أميركا في لبنان (كم أن السنيورة وصحبه أعزاء على قلب أميركا). يعترف محرجاً بهزيمة الإسرائيليّين وبموقعة بنت جبيل. كما يعترف أن خطبة فؤاد السنيورة في مؤتمر روما أثناء حرب تمّوز (النقاط السبع) كانت متقاطعة مع التفكير الأميركي. طالب وزير الخارجية الفرنسي بوقف فوري للنار لكن الأميركي عارض، والسنيورة تاريخيّاً أقرب إلى الأميركي منه من الفرنسي، لكن الأعمال بالنيات. شعرت الحكومة الأميركية بضغط على السنيورة (من داخل لبنان) كي ينجز (هو؟) تحرير مزارع شبعا، وطرحت رايس الأمر مع أولمرت، لكن النتيجة لا تزال ماثلة. أميركا، باعتراف هيل، اعتبرت أن سقوط حكومة السنيورة (القومي) كانت ذا ضرر على مشروع بوش. ديك تشيني كان ضد وقف النار وتواصل سرّاً بقناة خاصّة مع الإسرائيليّين كي يعلمهم ذلك.
يستعين هيل بمنظمة العفو الدوليّة كي يسجّل نقاطاً ضد الحزب فيقول إنها اتهمت الحزب بارتكاب جرائم حرب في تموز. طبعاً، كل منظمات حقوق الإنسان الغربية العنصريّة تتهم كل حركات المقاومة بارتكاب جرائم حرب ضد المحتل والمعتدي. هذا سبب وجود هذه المنظمات التي تتموَّل غالباً من صهاينة يتحكمّون في أجندتها (كما منظمة «هيومن رايتس ووتش» مثلاً). يردّد مقولة 14 آذار في أن نصرالله قال في مقابلة «لو كنتُ أعلم». هذا الاعتراف من نصرالله دليل إنسانيّة ولا أفهم الاعتراض عليه. يختلف هيل مع فكرة أن غياب التمثيل الشيعي عن حكومة يجعلها فاقدة للشرعية. لعلنا سنشهد مرحلة جديدة تطالب فيها أميركا بمنع التمثيل الشيعي عن الحكومات ومجالس النواب.
يعترف بفضل جيفري فيلتمان، في «الاحتضان والترويج لـ14 آذار»، تلك الحركة السيادية الشهيرة، وبأمر من واشنطن مباشرةً. نكتشف من الكتاب أن هيل كان يريد من إسرائيل أن تفتح الحرب على سوريا في تمّوز. لعلّه اليوم يهتف مُهللاً وهو يرى إسرائيل تشنّ حروباً ضد سبع دول في المنطقة.
يسجّل الانتقالات في السياسة الخارجية لأميركا: من دعم «الربيع العربي» إلى توثيق التحالف مع الطغيان السعودي. لكن ما يقوله هيل غير دقيق: أميركا لم تؤيّد «الربيع العربي» إلا لفظياً وبعد سقوط الطاغية الذي دافعت عنه (مثل مبارك أو بن علي). أمّا في ليبيا، فهي كانت المحرّكة لإسقاط النظام لأسباب لا علاقة لها بالربيع. وفي اليمن هي اشتركت مع السعودية في محاولة تشكيل نظام أكثر ملاءمة للسعودية، وفي البحرين شاركت في قمع الانتفاضة. هذا ليس سجلّ دعم لـ«الربيع العربي». مرجع هيل في تحليل السياسة الأميركية هو الصهيوني اللبناني، فؤاد عجمي، في تعميماته العنصرية الاستشراقيّة.
يتحدّث عن خلاف أميركا مع النظام السوري. لا غرابة أن ليس لغياب الديموقراطية أي علاقة. المطالب من دمشق انحصرت في: توقيف الدعم لحماس والحزب وكل الفصائل الفلسطينية المقاوِمة، وطرد الفصائل إلى دول غير لبنان. هذه هي أجندة الحرّية الأميركيّة في سوريا. يعترف أن فيلتمان طالب الحكومة اللبنانيّة بدعم المعارضة السورية وثورتها المسلّحة. هذا هو البعد الآخر من سياسة «النأي بالنفس». هو يمتعض من أن الدعم الأميركي للمعارضة المسلّحة في سوريا لم يكن كافياً لأنه لم يحقّق النصر على النظام وإيصال «النصرة» إلى السلطة في الشام.
يعترف أن الحكومة الأميركيّة تدخّلت مباشرة لمنع وصول ميشال عون إلى سدة الرئاسة (لا للتدخّل الإيراني في الشأن اللبناني). يشعر الصهيوني هيل بحرج شديد إزاء احتجاز سعد الحريري وضربه في الرياض. الصهاينة في واشنطن يتعاملون بودّ شديد مع محمد بن سلمان، حتى لو تعلّق الأمر بسوء معاملة حليف لهم. يقول عن احتجاز الحريري مثلاً: «إن معاملة الحريري في الرياض في نوفمبر 2017 أدّت إلى إعلانه استقالته من على شاشة تلفزيونية من الرياض». هذه هي الصيغة اللفظيّة المقبولة من اللوبي الإسرائيلي الذي يتجنّب إحراج محمد بن سلمان (طبعاً، إن صيغة بولا يعقوبيان بعد إجرائها المقابلة الشهيرة مع الحريري كانت أكثر نفاقاً ورياءً).
أمّا عن الانهيار المالي، فيحمّل المسؤولية لحسان دياب. تصوّر أن هيل مثلاً يحمّل المسؤولية لرياض سلامة الذي دافع عنه بقوة ونفى عنه صفة الفساد وتناول معه الغداء بعد الانهيار، لتسجيل الثقة الأميركية بشخصه الكريم. في خلاصته عن «دراسته» للعلاقات الأميركيّة-اللبنانيّة، يقول هيل إنه لا يمكن لوم أميركا على مشكلات لبنان، ولكنه يلوم أميركا «لأن قادتها ظنّوا أن في إمكانهم حل مشكلاته». أي إن أميركا مذنبة فقط في نياتها البريئة نحو لبنان ومحاولاتها الخيّرة لحل مشكلات لبنان لمصلحة أهله وبنيه. أمّا الغزوات والاجتياحات الإسرائيليّة المتوالية على لبنان، فيقول عنها إنها كانت «مبادرات لم تلقَ مصيراً حسناً». بالحرف.
لا يمكن النصح بقراءة هذا الكتاب ذي المنفعة الضئيلة إلا إذا كان الغرض فضح جهل وانحياز المولجين بإدارة السياسة الأميركية نحو بلادنا. هذا الرجل تبوّأ مناصب رفيعة في الخارجية الأميركية وكان سفيراً في أكثر من دولة. لكن ما سيلاحظه القارئ فإن ذلك لا علاقة له بالمواهب أو الكفاءات بل بحسن توافقه مع اللوبي الإسرائيلي ومع رؤسائه. الصعود في وزارة الخارجية الأميركية يتطلّب، للمندوبين في منطقة الشرق الأوسط، النقل الببغائي لخطاب ومطالب اللوبي الإسرائيلي. جيفري فيلتمان كان ناقلاً أكثر مهارة وديناميكيّة ولكنّ هيل ناقل مجتهد. ولقد رضي اللوبي الإسرائيلي عنه في إدارات ديموقراطيّة وفي إدارات جمهوريّة ما يعطي فكرة عن الاستقلال الفكري والمعرفي للرجل.
حرص هيل على تدبير شأن إصدار ترجمة فوريّة لكتابه بالعربية عن دار نشر لبنانيّة. لكن الكتاب بالكاد يُقرأ بالإنكليزية نظراً إلى رتابة السرد وانعدام الحكمة والفائدة. بصعوبة بالغة يمكن للقارئ ختم الكتاب خصوصاً وأن هذا الخبير المفترض في شؤون الشرق الأوسط يعتمد على كتب ثانوية صادرة عن المنطقة.
صحيفة الأخبار اللبنانية