النازيّـون صاروا في أميركا

 

تريد الكاتبة إيـفا فرانكِـنْبـيرغـر، من كتابها “النازيّون صاروا عندنا- (كفاحي) يحطّ في العاصمة واشنطن”، خَـلْـقَ مطابقة بين أبرز مبادئ ورؤى النازيّة، التي سطّرها الزعـيم الألماني الراحل أدولف هتـلر في كتابه الشهير “كفاحي”، والوجهةِ السياسية التي يعـتمدها الحزب الجمهوريّ في الولايات المتحدة؛ تراها متجـلّية على فترات متعاقبة من الماضي القريب حتى اليوم.

وتجد فرانكِـنْبيرغـر أنّ المسلَـك “الجمهوريّ” يشبه ذلك “النازيّ” بصلافته وأجندته الملأى بالفوقية العنصرية، وكراهيةِ الأجانب، وشيطنةِ الديانات الأخرى لتحقيق مكاسب سياسية. ولعلّ فرانكِـنْبـيرغـر أخفقت في بناء أسلوب منهجيّ في معـرض ربط الحالتَينِ ضمن إطار وجه الشبه، إذ لم تعتمد أسلوبَ المقارنة المباشرة، ولم تُورِدْ شواهدَ متشابهة ومتقابلة عـن فِكر وأداء كِلَا الحزبَـين في حالاتٍ ومجالاتٍ محدَّدة، في هذا الكتاب، إلّا ما ندر؛ واكتفت بتقديم شرحٍ وتحليلٍ (كانا وافـيَينِ موضوعـيًّا) للمبادئ المذكورة في ’كفاحي‘، تاركة للقارئ الحُكمَ على مدى التطابق الذي تعتقد هي به، بعد أن يكون القارئ فَهِمَ مبادئ النازية وفق ما استرسلت الكاتبة به مِن شرح وتفصيل.

العصبيّة الروحيّة لنجاح الحركة السياسية

تقول فرانكِـنْبيرغـر إننا جميعًا نحترم الأفعال البطولية.. لكن، في منظور الساسة الذين يمارسون سياسة الزعيم النازي الراحل أدولف هتلر، المسطورة في كتابه “كفاحي”، فإنّ التضحية البشرية هي وسيلة لخلق رابط عاطفي مع الجماهير، وتقديم أنموذج يُحتـذى لدى التابعين، وشيطنةِ الأخصام. فالرابط العاطفي الذي يشدّ الأفراد إلى حدث بطوليّ هو أداة سياسية لا منازع لها في ضرورتها. وبذلك، يصبح أي تهجّم على حركة سياسية تستند إلى البطولات البشرية، بمثابة تهجّم على تلك البطولات بذاتها. ففي عقيدة كتاب “كفاحي”، يُعتبر الرابط العاطفي مع الجماهير المناصِرة هدفًا يبرّر الوسائل المعتمَدة لتحقيقه.

إنّ القانون الأول في عقيدة هتلر السياسية، هو أنّ تلويح القائد السياسيّ بالعَـلم الحزبيّ أمام الجماهير، مشيدًا ببطولات أفراد هذا الحزب، قادرٌ فعلًا على ربط الشعب بالحزب الذي يتزعّمه؛ كما أنّ رجالات القضية العقيدية ينبغي أن يسوَّق لهم على أنهم النموذج الصافي للقيمة الحركية في إطار النضال الحزبيّ.. وعليه، يصبح كلّ منتقد للمسار الحركيّ للحزب إيّاه، بمثابة مُتَـشَيطِنٍ موسوم بالخيانة للقضية السامية التي يدافع عنها الحزب.

إنّ تحريك العاطفة الجماهيرية، من خلال التلويح بالعَلم الحزبيّ، يمكن تسخيره للترويج لسيادة عِرق على سائر الأعراق (سيادة العِرق الأبيض مثلًا)، وللفوقية الأخلاقية المتوهَّمة لطرف ما إزاء باقي الأطراف، وللحقّ في حيازة مكانة طبقية راقية في المجتمع أو في الحيّز الاقتصاديّ، وللنزعة الوطنية والعـصبية.

وبحسب دستور “كفاحي”، فإنّ المفاهيم والأفكار والحركات العقيدية ذات الأساس الروحيّ الواضح (بمعزل عمّا إذا كانت صائبة في توجّهاتها أم لا)، لا يمكن كسر شوكتها إلّا بأدوات سلطوية تستند إلى فِكر جديد أو فلسفة جديدة منافسة.

وينبغي للقوّة أن ترتكز على أساس روحيّ. فإنّ فرض القوّة لوحدها، من دون مصاحَـبة الدافع الروحيّ لها، بوصفه نقطة انطلاق، لا يمكن أن يؤدّي إلى تدمير فكرة منافسة وتقويض انتشارها.

والقوّة تستلزم الإصرار؛ فبالفرض المستمرّ والراسخ للأساليب الآيلة إلى قمع عقيدة منافسة، يمكن لخطّة ناشئة حديثًا أن تنجح. وتشدّد عقيدة “كفاحي” على أنّ العنف ينبغي أن ينبع من أساس روحيّ؛ فأيّ أسلوب عنفيّ لا ينبع من أساس روحي متين وصارم، سيكون هـشًّا وغير محرز للهدف (السياسي) المبتغى. وإنّ الاستقرار والمتانة المطلوبَين للحالة العنفية، يستلزمان نظرة عقيدية تعـصّبية لدى أفراد الحركة العنفية.

كذلك؛ فإنّ التغيير المنشود من قِبل حركة سياسية حادثة، وذات فلسفة أدائية مَرسيّة، هو بطابعه هجوميّ لا دفاعيّ.. بمعنى أن هذه الفلسفة الدافعة للعمل الحزبيّ تكافح من أجل الترويج (الإيجابيّ) لآيديولوجياها، أكثر ممّا تكافح من أجل التدمير (السلبيّ) للآيديولوجيا المنافِسة. وعليه؛ فإنّ أي محاولة لمحاربة فلسفة سياسية ما من خلال العنف ستفشل، إلّا إذا اتخذت هذه المحاوَلة طابع الاندفاع (الهجوميّ) لفرض مسلك روحيّ جديد.

فلسفة النازيّة لماهـيّة البروباغاندا

إن الدعاية السياسية (البروباغاندا) وسيلة وأداة، بالتالي ينبغي التعاطي معها من منظور الهدف الذي ترمي إلى تحقيقه. يجب أن توجَّه البروباغاندا دائمًا، وحصرًا، إلى الجماهير. إنّ مضمون الدعاية السياسية هو مادة علمية بقدر ما أنّ مضمون ملصق فنّيّ هو لون من ألوان الفنّ. وإنّ عنصر الفنّ الكامن في الملصق الفنّيّ، يتجلّى في قدرة المصمِّم على جذب انتباه الجمهور من خلال الشكل (التصميم) والألوان. وينبغي على الملصَق الفنّيّ أن يعطي الجماهير فكرة عن أهمية مضمونه، لا أن يكون العنصرُ الفنّيُّ المرافق له سببًا في أن يحلّ هذا الملصق (بكـلّيّته) محلّ المضمون. والأمر عينه يسري في خصوص البروباغاندا.

إنّ وظيفة البروباغاندا هي استـدعاء انتباه الجماهير إلى وقائع وضرورات معيّنة تكون أهميتها قد وضِعت للمرة الأولى في حيّز وعيهم وإدراكهم. وعنصر الفنّ الكامن في هذه الحالة، يتجلّى في تحقيق حالة الجـذب المبتغاة، بطريقة ماهرة، بنمط يجعل الجميعَ مقتنعينَ بأنّ الوقائع المعروضة في إطار البروباغاندا، هي وقائع حقيقية لا وهميّة.

على تأثير البروباغاندا أن يطال، في الغالب، العواطفَ (المنفعلة) لدى الجماهير، وأن يطال فكرَهم سطحيًّا، وبحدود ضيّـقة قدرَ المستطاع. وينبغي أن تكون جميع الأطر البروباغاندية ذات شعبية عارمة، وأن يكون مستوى الفِكر المضمَّن فيها معدَّلًا بما يتناسب مع أفهام الأقلّ ذكاءً من بين الجماهير (المستهـدَفة). بالتالي، كلّما كان حجم الجمهور المستهدَف كبيرًا، وحيّزه واسعًا، وجب أن يكون المستوى الفِكريّ البحت في البروباغاندا أدنى وأكثـر سطحيّة.

إنّ فنّ الدعاية السياسية يَكمن في فَهْمِ الأفكار العاطفية السائدة لدى الجماهير العريضة، وفي إدراك الطريقة المُثـلى التي بها يُجذب انتباهُ وقلوبُ هذه الجماهير؛ وذلك من خلال ممارسة الشكل المناسب من الرسائل السايكولوجية أثناء مخاطبة الجُموع.

ومن الخطأ أن تُجعلَ البروباغاندا متعدّدة الجوانب، كأنها إرشادات علمية!… فالقدرة الاستيعابية الذهنية لدى الجماهير محدودة جدًّا، وذكاؤهم ضئيل، لكنّ نزعتهم إلى النسيان كبيرة جدًّا. لذا؛ على أية عملية بروباغانديّة ناجحة أن تقتصر على نقاط قليلة يُخاطَب بها الجمهور عن طريق شعارات رنّانة.. إلى أن يفهم جميع المستهدَفين المرادَ من الخطاب.

إنّ المحوَر الرئيس في جميع النشاطات البروباغاندية، هو أن يكون الخطابُ منحازًا وانفعاليًّا وذا وجهة واحدة حيال كل نقطة يتطرّق إليها؛ إذ كيف عسانا نتـلقّف مُلصقًا إعلانيًّا يرمي إلى الترويج لمنتج جديد، ويصف – في الوقت ذاته – المنتجاتِ المنافسةَ بطريقة إيجابية ومُشيدة؟! إنّنا سنسترخص، ساعتئذٍ، جودةَ المنتَج المراد أصلًا الترويجُ له في المُلصَقِ.. والأمر عينه يسري على الإعلان البروباغانديّ السياسيّ.

كذلك؛ ليست وظيفةُ البروباغاندا التأمّلَ في الحقوق المتنوّعة لمجموعات الشعب، بل التركيزَ حصرًا على الحقّ الوحيد الذي رامت الدفاع عنه… فمُهمّتها، إذن، خدمة ذلك الحق الوحيد بالتحديد، من دون سواه، بشكل دائم وبلا توانٍ ولا تردّد. وإنّ الدعاية السياسية لا تحتمل تعـدّد المواقف؛ فهي تطلِـق حُكمًا على شيء إمّا بأنه “سلبيٌّ” وإمّا “إيجابيٌّ”، وإمّا أن تروّج للحبّ أو للبُغض، وإمّا أن تصف شيئًا ما بأنه “صائب” أو “خاطئ”، أو “حقيقة” أو “كذِب”… فهي صارمة لا تهادِن ولا تستقـرّ بأنصاف الحلول.

إنّ الأسلوب البروباغاندي الألمعيّ هو ذاك الذي يحصر توجّهه في نقاط قليلة ويكرّرها مَرّة بعد أخرى. فعنصر “الإصرار” هو أوّل وأهمّ ضرورات النجاح في توجيه الجماهير. ومع كون هدف الدعاية السياسية هو إقناع الجماهير، فإنّ هذه الجماهير بطيئة الفَهم، ثقيلة الحركة، ولا تلحظ بسرعةٍ الأشياءَ الجديدة المطروحة. لذا، فإنّ الجماهير لا تميل إلى تذكّر أبسط الأفكار العقيدية، إلّا بعد تكرار هذه الأفكار آلافَ المرّات.

وإنّ الجماهير العريضة هي عُـرضة لتصديق كذبة كبيرة (موضوعها ذو شأن كبير) منها إلى تصديق كذبة صغيرة؛ لأنّ أفراد هذه الجماهير يكذبون غالبًا في الأمور البسيطة، ويشعرون بالخزي أن يكذبوا في أمور ذات شأن كبير؛ لذا يستبعدون أن تطالَهم جهةٌ (سياسية) ما بكذبة في شأن كبير. فإذا عَـرَضَت لهم كذبة كبيرة، صدَّقوها، فحتى لو تـمّ تنويرهم بعدها حيالَ كونها كذبة لا حقيقة، فإنّهم سيظلّون متردّدين في الإذعان للمعلومة التنويرية (الكاشفة للحقيقة)، وسيستمرون في تصديق الكذبة التي تلقّوها على أنها حقيقة.

والناس، إلى ذلك، نَسَوِيُّو الطبيعة والسليقة والسلوك عمومًا؛ فلا تحدِّد العقلانيةُ منحى تفكيرِهم وتصرّفاتِهم كمِثـل ما تفعل العاطفة والمشاعـر.

السُّـذَّج.. الشريحة الجماهيرية الأوسع

تصف الدوائرُ الإعلامية مجالَ الإعلام بأنه “قـوّة عظيمة” في الدولة. وإنّ أهمية الإعلام كبيرة فعلًا؛ فهو يُكمِل دورَ التعليم والتثـقيف لأفراد المجتمع حتى وهُم في عُمُرٍ متقــدّم. ويمكن تقسيم جمهور الإعلام إلى ثلاث مجموعات؛ الأولى تشمل أولئك الذين يصدّقون كل ما يتـلقَّونه، والثانية تشمل الذين اتخذوا قرارًا بألّا يصدّقوا شيئًا مما يتـلقّونه، والثالثة تشمل ذوي العقول التي تفحص بدقّةٍ ما يتـلقَّونه ثـمّ يطلقون أحكامهم عليه على أساس الفحص.

عدديًّا؛ “المجموعة الأولى” هي الأكبر، بشوط كبير، من الثانية والثالثة. وهي تشمل الحيّز الواسع من جمهور الشعب، وتمثّـل السُّـذَّجَ من أفراد البلد. وهؤلاء السذج ليس في استطاعتهم، ولا في نيّتهم، فحصُ ما يُطرح لهم في منصّة الإعلام؛ وبالتالي، فإنّ كلّ ردود أفعالهم تجاه المشاكل اليومية، يمكن حصرها في التأثير الخارجيّ (للجهات الموجِّهة لتفكيرهم) عليهم. وقد يكون هذا الحال إيجابيًّا إذا ما كان تنويرُهم، عبر الإعلام، آتـيًا من قِبل حزب سياسيّ رصين وساعٍ إلى الحقّ، لكنّه يكون كارثيًّا إذا ما كان الحزب الموجِّه لآرائهم تـديره طغمة فاسدة وكاذبة وخدّاعة.

في عملية اقتراع الجماهير أثناء الانتخابات، تحدّد الفئة الأوسع من الشعب (وهي “المجموعة الأولى”، الساذجة والمنقادة لكلّ ما يُطرح لها) مَن سيكون الفائز. وإنه من جزيل الأهمية والضرورة، بالنسبة إلى الدولة، منع الجهات المرشَّحة التضليليّة والمخادِعة، من الإيقاع بهذه الأغلبية الساذجة من أفراد الشعب. لذا؛ على الدولة أن تفرض رقابة مشدَّدة على وسائل الإعلام (ذات التأثير الأعمق والأقوى على هؤلاء السذج)، لكونها تبثّ المادة الاتصاليّة، التي قد تكون مضلِّلة، بشكل مستمرّ وراسخ. فبالرسوخ والدائميّة هذَينِ، يستأثر الإعلام بالقوّة الهائلة التي يَشتهر بها.

وعلى الدولة ألّا تنسى أنّ جميع الوسائل والأدوات إنما هي لخدمة هدف ما، وعليها ألّا ترتبك أمام مبدأ “حرّيّة الإعلام” فتتجاهلَ تطبيق واجبها تجاه سلامة أفراد الشعب. إذن؛ على الجهة الحاكمة أن تضمن بشكل حاسم ألّا تفلت أداةُ الإعلام، المثـقِّفة والموجِّهة للمجتمع، من حيّز سيطرةِ الدولة وخدمةِ أهداف الحُكم.

لكن في الواقع؛ قد تكون الدولة عينُها هي الطرفَ الذي يضلّل أفراد المجتمع بالوسيلة البروباغاندية!… ففي حالة يكون فيها تنفيذُ مهمّة غير حميدة هو المطلوبَ، تلجأ الجهة الموجِّهة (الدولة الحاكمة) لمزاج أفراد الشعب، إلى تركيز اهتمامهم على مسألة واحدة تُصَوِّرُها على أنها الفيصل بين الحياة والموت.. ومثال ذلك تركيزُ الإدارة الأميركية (التي ترأسّها جورج بوش-الإبن، التابع للحزب الجمهوريّ في الولايات المتحدة، في فترة مضت) لاهتمام الشعب الأميركيّ على مسألة وجود أسلحة دمار شامل في العراق (في فترة الإطاحة بالرئيس العراقي الراحل صدّام حسين) التي زُعِم أنّها تهدّد السِّـلم والأمن العالميّين.. وكان ذلك، فعليًّا، تبريرًا لغزو العراق، وبسط وتعزيز النفوذ الأميركي في “الشرق الأوسط”.. وقد تأكّد، في ما بعد، أنّ زعم وجود هذه الأسلحة كان مجرّد خدعة بروباغاندية مارستها الإدارة الأميركية التي كان يقودها الجمهوريّون!.

لقد نجح، وقتها، جورج بوش-الابن في جعل كذبة مكافحة أسلحة الدمار الشامل، شأنًا أمميًّا، ومهمّة وطنيّة تعني جميعَ أفراد الشعب الأميركي… ونجح في تصوير المسألة، أمام الرأي العام الأميركيّ، على أنها مأساة كارثية كبيرة، ينبغي مواجهتُها من خلال الْتحام جميع أفراد الشعب الأميركي خلف القيادة (“الجمهوريين”) الحاكمة، وأنّ كلّ خير مروم للأميركيّين يتوقف تحصيلُه على التخلّص من ذلك الخطر المدمِّر في العراق.

مستـلزَمات التنظيم والقيادة الناجحَين

إنّ جذبَ الجماهير إلى الولاء للوطن لا يمكن تحصيله عن طريق أنصاف الإجراءات، كأنْ يُلفَتَ إلى وجهة نظر معيّنة بطريقة هـشّة وباهتة؛ بل عن طريق توجيه الجمهور المستهدَف، بأسلوب صارم وعصبيّ منحاز، إلى الهدف المراد تحصيله.

إنّ الإيمان التسليميّ أكثرُ رسوخًا من التعلّم الناقـد، والحبَّ الوَجديّ أقلُّ انقيادًا للتغيير من الاحترام التعقّـلي، وإنّ الدافع إلى القيام بأقوى وأمضى الثورات، كان دائمًا مبنيًّا بشكل أكثر على العصبيّة المتحمِّسة والانفعالية التي تسوق الجماهير، منه على المعرفة العلمية العاقِلة السائدة لدى شريحة من الشعب.

إنّ على كل مَن يريد الاستئثار بالجماهير الشعبية العريضة، أن يعرف المفتاح الذي به يفتح باب قلوبهم وعاطفتهم. وهذا المفتاح ليس “الموضوعية” (الحياديّة الهادئة)، بل هو الإرادة والقوّة. ينبغي أن يرى الناس، دومًا، البرهانَ على نيل حقوقهم، في الهجوم الضاري لقيادتهم ضدّ خصم ما. وإنّ جذب الجماهير إلى الولاء للوطن سيتحقق عندما تتمّ إبادة المفسدين الدخلاء.

من بين مئة خطيب جماهيري، بالكاد يكون ثمة عشرة قادرون على توجيه رسالة اتصالية مؤثّرة وفاعلة، إلى حشدٍ من بسطاء الشعب غير المثـقَّفين، في يوم ما، ثـمّ تقديم محاضرة أكاديمية تتطرّق إلى الموضوع عينه في قاعة ملأى بأكاديميين وطلّاب جامعيين، في اليوم التالي. لكن من بين ألف خطيب جماهيري، قد يكون واحد فقط هو الذي يستطيع أن يتوجّه إلى البسطاء غير المثـقَّفين، ومعهم إلى أكاديميّين وأساتذة جامعيّين، في الوقت عينه؛ بنمط ملائمٍ للمقدرة الاستيعابية الذهنية لدى الفئتَينِ، ومؤثّرٍ فيهما على نحو يحدو أفراد كِـلَيهِما على الانفعال والترحيب بالرسالة المتـلقّاة. فلا يَكمن الأمر المهمّ في ما لدى العبقريّ من فكرة، بل في الأساليب التي يعتمدها مروّجو هذه الفكرة لغـرسها في أذهان المتـلقّينَ.

إنّ للقائد قـوّة ونفوذًا وسلطة كبيرة. وأيّ شخص يريد أن يصبح قائدًا، عليه تحمّل مسؤولية كبرى وثـقيلة، مع رفاهية السلطة التي سيتمتع بها. لذا؛ فإنّ الشخص الجبان الذي لا يقدر على تحمّل عواقب أفعاله، لا يصلح ليكون قائدًا. وإنّ تقدّم وازدهار الإنسانية لَيسا نتيجة لفعل الأغلبية، بل هما، حصرًا، وليدا عبقرية وحماسة شخصية القائد. وعليه، فإنّ رعاية وتـشذيب شخصية القائد، هما من مقدِّمات استرجاع عظمة وقوّة أيّ دولة.

وتقول الكاتبة فرانكِـنْبـيرغـر إنّ هتلر كان يرى أنّ عظمة كلّ تنظيم قويّ، يحمل فكرة عقيدية، تكمن في تعصّبه الدينيّ وتهميشه للآخر، اللذَينِ بهما يفرض إرادته على الآخرين جميعًا، مقتنعًا – عقيديًّا – بحقّه في إمضاء هدفه. فكان هتلر يرى، مثلًا، أنّ عظمة الديانة المسيحية لم تكن في محاولاتها لإيجاد تسويات تفاوضية مع غيرها من الآراء الفلسفية السائدة في زمانها، بل في تعصبّها العنيد في الوعظ والقتال لإمضاء عقيدتها على الساحة البشرية.

وتُعقِّب فرانكِـنْبيرغر بأنّ كثيرًا من الأكاديميين قد يعارضون رؤية هتلر هذه للمسيحية، جازمينَ بأنّ ذروة التنوير المسيحي لم تكن في فترة الحملات الصليبية الإلغائية، ولا في غيرها من فترات التعصّب والتهميش. فمبدأ هتلر هنا، هو أن يُفهِم التنظيمُ أعضاءَه أنْ يرَوا النضال ضدّ العقائد الأخرى على نحو أنه نفس الهدف الذي يرومون تحقيقه وإرساءَه؛ لذا، عليهم ألّا يخافوا من عدائية أخصامهم، بل أن يشعروا بأنّها بداية حقّهم الحصريّ في الوجود.

نفوذ الكلمة المَحكيّة وقُصور الكلمة المكتوبة

ينبغي على أي حزب ساعٍ للهيمنة على الساحة السياسية، أن يهيمن أوّلًا على الرأي العام؛ فلا يجب أن يعمل على خدمة الجماهير، بل على امتلاكهم والاستئثار بولائهم.

عليه؛ ينبغي ألّا يسلّم الحزبُ ويذعن للرأي العام. وإنّ أعظم المشاريع السياسية الناجحة وأكثـرَها دوامًا، في التاريخ، هي في معظمها تلك التي لم يفهمْها أفراد الرأي العام في بداية حركتها السياسية، لأنها كانت على طرف نقيض لتوجّه ذلك الرأي العام، ومخالِـفة للآراء والأمنيات السائدة في حينها.

وعلى قائد الحركة السياسية الحديثة العهد أن يُـفلح في ترقّب وتفنيد وجهات النظر المضادّة، حتى تصير هذه الحركة ناجحة وفاعلة في استقطاب الرأي العام في الساحة السياسية. لذا، عليه أن يسحب من خصمه السياسي الأدواتِ التي يستعملها هذا الأخير في نقده لوجهة قائد الحركة السياسية الحديثة العهد. وينبغي على هذا القائد أن تكون لديه فكرة واضحة، مسبقًا، عن الشكل والمضمون المحتملَينِ للنقد المضادّ لتوجّهه؛ بالتالي، يعمد إلى مقاربة هذين العنصرَينِ، لدى إلقائه خطابَه الجماهيري التهـيِـيجيّ، بنمط يحوّل به وجهة النقد المضادّ لصالحه.

ومن الضروري ذِكر جميع الاعتراضات النقديّة المحتمَلة، وتبيانُ خَطَئِهَـا (بما يتوافق مع الأسلوب البروباغانديّ)؛ فمن السهل أن يكسب قائد حزبيّ تأييدَ شخص صادق مع نفسه – من جماهير الشعب – من خلال مَحـوِ الأفكار النقدية التي فرِضت على هذا الأخير سابقًا، واستبدال أفكار وتوجّهات القائد الحزبيّ مكانها. وبهذا يكون القائد قد بدّل أفكارَ وقناعاتِ ذلك الشخص من دون دفعه إلى الانخراط الشخصيّ في جدال مفهوميّ انفعاليّ يمنعه من الانفتاحِ على الرأي المضادّ والقبولِ به؛ بل بِجَعلِهِ محضَ مُتَـلَـقٍّ للفكرة الآيديولوجية المنافسة وقابِلٍ بها.

إنّ بروباغاندا الشرح الوافي ضرورة لكسبِ مَن كانت آراؤهم واتّجاهاتُهم الفكريّة تـنحي بهم منحى المعسكر الآخر. وإنّ الأوراق الأحادية (المنشورات) تفي غرضًا مرومًا لدى عملية نشر البروباغاندا.

لكن؛ يجب ملاحظة أنّ جميع الأحداث الكبيرة التي غيّرت مظهر العالم، تمّت من خلال الكلمة المَحكيّة لا الكلمة المكتوبة. ولقد احتجّ المثـقّفون ضدّ أسلوب هتـلر لأنه لم يكن لديهم الدفع والمقدرة على التأثير في الجماهير عبر الكلمة المَحكيّة، فقد اعتمدوا دائمًا وحصرًا على الكلمة المكتوبة، ولم ينخرطوا في الساحة مباشرة مع الجماهير على نحو خطباء موجِّهينَ لحركة الرأي العام.

من المهمّ الالتفاتُ إلى أنّ الخطيب الجماهيري يتلقّى دومًا الإرشادَ من المخاطَبِينَ أنفسِهم لدى توجّهه إليهم؛ وهذا يساعده في تصويب اتجاه خطابه. ففي مقدوره، والحال كذلك، أن يقيس مدى فَهمِهِم لما يقوله، وتفاعلِهِم معه، من خلال رصد ملامح وتعابير وُجُوههم أثناء إلقائه الخطاب، ليتبيّن ما إذا كانت كلماته ترفـد التأثير المبتغى. لكن، بخلاف ذلك؛ لا يعرف الكاتب قـرّاءَه البتّة!. لذا، ومنذ البداية، لا يقدر الكاتب على التوجّه إلى حشد معيّن ومحدّد من الناس، ماثـلٍ أمام عينيه، بل يتّجه إلى الكتابة ومحاولة إيصال فكرته بشكل عموميّ باهت. بالتالي؛ سيفشل الكاتب، إلى حدّ معتـبَر، في الإتقان والمرونة النَّـفْسِـيَّـينِ، فيخسر في هذا المجال، ما يكسبه الخطيب الشفهيّ الجماهيريّ. ويمكن القول إنّ الخطيبَ الجماهيري الألمعيّ، يكتب بشكل أفضل ممّا يخطب به كاتبٌ ألمعيٌّ؛ إلّا إذا تدرّب الكاتب جدّيًّا على المخاطبة الجماهيرية.

لذلك؛ نرى أفكارًا مكتوبة ذات وجهة فكرية معيّنة، تُـقرأ مِن قِبل أولئك الذين يتعاطفون مع هذه الفكرة، فحسب. وَوَحدَها المنشورات الورقية أو اليافطات، هي التي بالكاد تستطيع، بحُكم كونها موجَزة ومباشرة، حشدَ اهتمامٍ مرحليٍّ لدى أولئـك الذين تختلف آراؤهم عمّا تحويه من أفكار.

إنّ للصورة، بكل أشكالها (بما في ذلك الفيلم المَشهديّ)، حظًّا أوفـرَ في التأثير على المتــلقّي. ومن الأجدى – إن لم يكن مِن بُـدّ من اعتماد نصوص ترويجية – اعتمادُ نصوص مختصَرة، لأنّ كثيرًا من الناس هم أكثـرُ ميلًا إلى قبول عرض مصوَّر، منهم إلى قبول وصف مكتوب مستفيض.

قد يقارب الخطيب الموضوعَ عينه الذي يقاربه كاتبٌ ما؛ لكن إذا كان لدى الخطيب العبقرية والشعبية المطلوبتَانِ، فإنّه نادرًا ما سيكرّر الطرحَ ذاتَه أو المادة المَحكيّة ذاتَها، بالشكل ذاتِه، في مناسبتين متتالِيَتَينِ. فإنّ هذا الخطيب سيتتـبّع ملامح مستمِعيه، وبذلك يعرف مدى نفوذ كلامه فيهم، ويستطيع عندئذ تعديلَ مسار خطابه بما يفضي إلى تمام تحقيق توجيهِهِم نحو الموقف الذي يروم سوقَهم إليه. وإذا وقع الخطيب في أصغر هفوة، فإنّ ضرورة تـداركِ مسارِ كلامه ستكون منعكسة له من صفحات وجوه مستمعيه الذين هم أمامه.

غالبًا ما يكون الأمر متعلّـقًا بتجاوز عصبيّات كامنة في اللاوعي لدى أفراد الرأي العام، مسنودة إلى المزاج لا إلى تعقّل منطقيّ. وإنه أصعب عمومًا، بآلاف المرات، أن يتمّ تجاوز حاجز الاستنكاف الغريزي هذا، والكراهية العاطفية، والمعارَضة التجنّبية؛ من أن يتـمّ تصحيح آراء بُـنيت على معلومات تفكّريّة خاطئة. فالأفكار المضلِّلة والجهل يمكن تبديلُهما بسهولة من خلال التوجيه الإرشاديّ، لكن يستحيل قَـلْبُ العناد العاطفي وإقناعُه بغير ما يَرتاح له. لذا؛ فإنّ مقارَبة معنويّة لهذه الأبعاد النفسية الراسخة، وحدها يمكن أن تؤتي نتيجة إيجابية في التغيير العاطفي المنشود. وهذه المقارَبة لا يقدر على مثـلها أيّ كاتب؛ فوحده الخطيب الجماهيري هو القادر على إحداث فَرق في هذا المجال.

ومن الصعب إزالة عصبيات عاطفية، وانحيازات نفسية، ومشاعر راسخة، واستبدال غيرِها مكانَها. هنا يكون دور الخطيب المحنّـك في تقدير المطلوب لحرف وجهة كل هذه الثوابت لدى الأفراد. والأمر لا يقتصر على مجرّد أسلوب الخطيب؛ بل حتى التوقيت الذي فيه يُـلقّى الخطاب، له تأثيره الفَصْلُ على مدى نفوذ ونجاعة الخطاب. فإذا ذهب شخص ما إلى المسرح لمشاهدة عرض صباحيّ، ثـمّ شاهد العرض المسائيّ للمسرحيّة ذاتها؛ فسيكون مدهشًا كم سيتغيّر الانطباع المولَّد في نفس ذلك المتلقّي حيال العرض، في الصباح، عنه في المساء. والأمر عينه صحيح في ما يخصّ الإنتاج السينمائي؛ إلّا أنه قد يظنّ البعض أنّ حالة العرض المسرحي تـشتمل على واسع احتمال أن يتغيّر انطباع المتلقّي بتغيّر مستوى الأداء المسرحيّ المباشر للممثّـلين بين الصباح والمساء، فيما أنه ليس الحالُ كذلك في ما يخصّ الفيلم السينمائيّ. لكنّ هذا الظنّ خاطئ؛ إذ إنّ الوقت هنا هو صاحب التأثير المائز، لا مستوى أداء الممثّـلين.. تمامًا كما أنّ لغرفة، بموجوداتها وهندستها، تأثيرًا على الأشخاص.

ففي الصباح وخلال النهار؛ يبدو، علميًّا، أنّ نفسية المرء ستصدّ، بكل ما أوتـيَت من قوة، أيّ محاولة لفَرض إرادة أو رأي طرف آخر عليها. لكن في المساء، هذه النفسية ذاتُها ستكون سهلة الانقياد لأيّ إرادة خارجية تحاول الهيمنة عليها!

إنه في خضمّ الصراع بين المرسِل وخصمه الذي يحاول هو تحويلَه عن مسار قناعاته؛ ليس الانسجام الباهر مع التأثيرات النفسية للبروباغاندا، موجودًا لدى مؤلِّفٍ يخاطب المتلقّين بكلمة مكتوبة، بل لدى خطيب جماهيري يتّصل بالمتـلقّين بكلمة مَحكيّة.

عمومًا؛ إنّ مؤلَّـفًا يضعه كاتبٌ ما، سيساعـد في المحافظة على أسس ذهنيّة هي قائمة أصلًا مِن قَبْلُ، وعلى تعزيزها وترسيخها. لكن؛ فعليًّا، جميع الثورات التاريخية العظيمة لم تكن وليدة الكلمة المكتوبة، بل في الغالب، كانت الكلمة المكتوبة مجرّدَ مرافِق هامشيّ لهذه الثورات. ولا يمكن تصوّر أن تكون الثورة الفرنسية قد نجحت بفعل النظريات الفلسفية، إذا لم تكن تلك النظريات قد وَجدت جيشًا من المثيرين والمحرّضين الجماهيريين يقودهم أسيادُ الديماغوجيا العالو المستوى. وهؤلاء الديماغوجيون هيّجوا الشغف الشعبيّ بالتغيير، الملتهب في نفوس الجماهير، حتى فار بركان الحراك الثوري الشعبي أخيرًا وغمر جميع أوروبا. والأمر عينه يسري على الثورة البلشيفية العظيمة التي حدثت في روسيا. فلم يكن حراك الثورة وليدَ نتاج الكتّاب الذين نظّروا لفكر الزعيم البلشيفي، لينين، بل وليدَ النشاطِ الخطابيّ لأولئك الذين وعظوا وكَرَزُوا بتلك العقيدة المملوءة كراهيةً، وحركةِ الخطباء البارعين الذين شاركوا في التحريض الشعبي على الثورة.

الميادين نت

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى