كتلة صماء
إن أفرغنا حوار أدونيس من (محتواه الديني) فلن يبقى شيء فيه للمناقشة، سوى ما يقوله الجميع عن وجوب علمانية تفصل الدين عن الدولة، وتمنح الحرية للجميع بما في ذلك المرأة، وبما في ذلك حرية امتلاك الجسد، لكن أدونيس كما (داعش) يحتاج تماماً إلى هذا المضمون الديني لكي يحلّق فوق التاريخ في إجمالٍ يُخل بالشروط المعرفية لحدثٍ جسيم في تاريخ العرب، ولكي يؤكد وجهة نظره: «لا ديموقراطية من دون تجاوز قيم الدين»، وهذا ما تقوله معكوساً داعش في التشديد على الدين لنفي الديموقراطية، أي أن الدين هو الشرط الشارط عند أدونيس وداعش؛ كلٌ حسب ما يذهب إليه.
وفي الجزء الأول من الحوار الخاص بالثورات العربية وعلاقتها بالدين لم يذكر أدونيس على الإطلاق؛ تلك الكلمة التي يبدو أن مثقفينا كباراً وصغاراً لا يهتمون بها (الدستور) من حيث هو الأساس الذي تنبني عليه دولة في علاقتها بمواطنيها، ولأن أدونيس يحلّق فوق التاريخ – كما أسلفت – فسوف يكون عصر النهضة العربية لديه مجرد مرحلة انتكست أو فشلت، مع أن هذه المرحلة بالذات هي ما شهدت نشوء الدولة العربية الحديثة وظهور الدساتير التي إن كانت قاصرة عما يطمح إليه أدونيس أو غيره، فإنها على الأقل أرست مبدأ المواطنة، وفي حالة مصر على سبيل المثال، فقد كان نشوء الدولة الحديثة ودسترة القوانين عبوراً هاماً للغاية للدين بوصفه (شريعة).
من الصحيح أن القوانين في مصر تحمل بعداً دينياً إسلامياً يخص أكثر ما يخص الأحوال الشخصية والميراث، لكن القوانين المصرية لا تجيز الرِّق على سبيل المثال، كما أن مناط تحديث المجتمعات ليس ما يقوله أدونيس أو غيره على أهميته في الوعي العام والثقافي وإنما في الدساتير التي تنظم حياة الناس، ولنضرب مثلاً مباشراً: لقد كان من شأن النظام السوري أن يتفادى ببلده المأساة الراهنة لو أقدم مبكراً على تغيير الدستور وأسقط تلك المادة الخاصة بالسيطرة الأبدية لحزب البعث العربي الإشتراكي، وحصَّن البلد والمجتمع بأفق أوسع للحرية وبكفِّ يد الأجهزة الأمنية عن تخريب حياة الناس، وفي ردِّه على تظاهرات الناس لم يجد النظام السوري غير ما تربى عليه؛ أي قمع الناس والإطلاق الموارب لجماعات الإرهاب الديني ليمسك تلك الحجة التي تقول: إن بقاء النظام ضامن لعدم شيوع التطرف الديني، وهي حجة نجح فيها النظام على جثث مئات الآلاف من السوريين، حيث يمكن لأدونيس الآن أن يدلل على صحة وجهة نظره بالجماعات المتطرفة التي تعيث قتلاً وفساداً في سوريا، أي أن أدونيس يقبل راضياً حجة النظام السوري مستنداً أيضاً على الرهاب الديني.
إن الدين كما يتصوره الشاعر السوري ليس هو المشكلة في الحقيقة، ولكنه جزء منها يمكن حله بدسترة علاقة الدولة والناس بالدين وبناء شبكة قوانين تمنع عبور المتطرفين إلى السياسية والشأن العام والإدارة، بالضبط كما فعل الغرب مع النازية التي تتطابق في جوهرها العنصري مع جماعات الإرهاب الديني في المنطقة العربية؛ من حيث نفي الآخر والقتل، لكن مصادرة المجتمع والدولة لصالح النظام في الدول العربية هي المشكلة الأساسية وهي مناط الثورات في بلدان الربيع العربي.
إن كان أدونيس غافلاً عن محتوى شعارات الثورة المصرية فها أنا ذا أذكِّره بها: (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية).. وهي شعارات تقوم على أساس مظالم الناس في بلدانهم ومنها مصر بالتأكيد، أي أن الناس لم تطالب مثلاً بتطبيق الشريعة، أو بالعودة إلى الإسلام الصحيح. والثورة إن كانت لدى النخبة مضموناً وتأسيساً معرفياً فإنها عند الناس ليست كذلك، لكن الثورة في النهاية تحرك وعي الناس بحقوقهم.
فوق التاريخ
فهل المثقف ـ وهو أدونيس في هذه الحالة ـ يحلّق فــوق النــاس كما يحلّق فوق التاريخ؟
أعتقد ذلك، حتى أنه يغفل الفروقات الواضحة من حيث الجغرافيا بين سوريا وبين مصر وتونس، فإن كانت الثورات في البلدين الأخيرين قد نجحت نسبياً؛ فهذا يعود في الأساس إلى الحشد البشري، الذي ما كان له أن يكون كذلك لبعد المسافات بين المدن السورية، مما يفقد أية كتلة تظاهرات وازنة أهميتها ويتركها فريسة للنظام أو لجماعات التطرف الديني؛ سواء نبعت من الداخل أم جاءت من الخارج، ولعل صاحب «المسرح والمرايا» يعرف أن ثمة سبباً آخر علمانياً كان وراء نجاح الثورة التونسية، وهو الاتحاد التونسي للشغل اليساري النزعة والذي تولى الحشد في تونس، كما كان بيضة القبان في الدستور التونسي الذي تم إقراره أخيراً، ولو لم يكن الاتحاد التونسي للشغل حاضراً لتمكنت جماعة أصولية مثل النهضة من فرض شروطها كاملة على المجتمع التونسي.
نفي غير واقعي
إن القضايا الكبرى في حياة الناس لا يمكن تحليلها بخفة التصورات التي يلزمها الغرق في التفاصيل قليلاً أو كثيراً لتكتسب وزناً يمكّنها من الوقوف على أقدامها فوق الأرض، وحتى في البعد المعرفي يلزم قليلاً أو كثيراً بعض التفاصيل أو البحث، لأن نفي أدونيس مثلاً أنه ما من مفكر عربي جابه الأسئلة الصعبة في الدين كالوحي وغيره، يبدو نفياً غيرَ واقعي، فهل أذكرَّه مثلاُ بكتاب معروف الرصافي «الشخصية المحمدية»..؟ وقد يحتج أدونيس هنا بأن ما كان يقصده هو (اليقينيات) التي لم تتم مساءلتها في الدين الإسلامي، والرد أن مثل هذه اليقينيات موجودة في جميع العقائد والأديان، لكنها لم تمنع التفكير خارج حدودها الصارمة ومثال فرج فودة في مصر لا يزال واضحاً للعيان حتى اليوم، وحتى شخصيات كالتي تفتن أدونيس مثل الرواندي وغيره؛ ما كان لها أن تكون إلا في السياق الحضاري للدين الإسلامي، فالمسألة هنا لا تتعلق فقط بابن تيمية وإنما بمجمل السياق الحضاري الذي أوجده الإسلام في العالم.
ثم إن أدونيس يهمل أمرين في الحقيقة في تحليله للثورات العربية، الأول أن الحرية النسبية للغاية في مصر وتونس والتعليم كذلك ساهم مساهمة حقيقة في نشوء الوعي بالثورة والتغيير ولم يكن للدين دور إلا في الحشد من المساجد وتلك هي المسألة الثانية التي أغفلها صاحب «فاتحة لنهاية القرن» بإدانته للمساجد التي لم يكن ثمة أماكن سواها تجمع الناس بعد أن شطبت الدولة بأجهزتها المجال العام – ليس في مصر وتونس فقط – ولكن في سوريا أيضاً.. فالذين تجمعوا في المساجد وتظاهروا انطلاقاً منها في دول الربيع العربي، لم يكونوا ينطلقون منها لفتح بلادهم بالغزو، وإنما كانت المساجد أماكن حشد، خاصة في سوريا، وهنا يسقط ادعاء أدونيس بالغطاء الديني للثورات في منشأها، وهو الغطاء الذي اكتسى بعداً دينياً إرهابياً بعد ذلك، في الدول التي تعيث فيها جماعات الإرهاب الديني كداعش وغيرها عنفاً وفساداً.
إن الإسناد الديني الذي يستند عليه كلام أدونيس كله في شأن الثورات العربية، يبدو كأنه يطابق نتيجة في برنامج مسابقات، لقد حللت لكم اللغز، انظروا ها هي داعش وغيرها، هي النتيجة، لكن أدونيس وإن كان يحتاط في شأن ثورتي مصر وتونس على خجل، فإنه لا يخرج إجمالاً عن هذا التصور الذي يرى أن الدين هو مصيبة المصائب كلها، تماماً كما تراه داعش معكوساً في خلافتها المزعومة، كما أن أدونيس يبدو وكأنه يفكر على مساحة مسطحة بحديثه عن العرب أو العالم العربي كما لو كان كتلة واحدة صماء لا فروق فيها؛ تستند إلى تاريخ واحد أصم يعود به أدونيس كعادته إلى سقيفة بني ساعدة، وهذه السقيفة يقف فيها أدونيس وداعش وإن كان كل منهما يعطي ظهره للآخر.
(شاعر وصحافي مصري)
صحيفة السفير اللبنانية