“كفر الهوى” الواقعية تتزيّا بالرومانسية
يقدم لنا صلاح شعير في روايته هذه “كفر الهوى” الصادرة عن دار يسطرون للطبع والنشر والتوزيع بالقاهرة وجبة واقعية دسمة، ويرسم لوحة جميلة من لوحات الحياة بكل ما فيها من صراع ومعارك حياتية بين الأشخاص يتميز بها الواقع شديد الواقعية، وتخفف قصة الحب شديدة الرومانسية الحالمة وطأة هذا الصراع الجبار بين الأشخاص من أجل تحقيق مكاسب مادية، ويلتقي في هذه الرواية العلم ومنتجاته بالخرافة الأسطورة، وهو التفكير الذي لا يزال يهيمن على العقول بالرغم من كل وسائل التقدم التي يستخدمها الإنسان، والتي من المفترض أن تحدث تطورًا ونضجًا في البنية العقلية، ولكن ما إن تحين الفرصة حتى يطفو على السطح كل ما هو مخبأ في العقول ومغلغل في داخلها، متمثلا في المبالغة المرفوضة عقلا في الاعتقاد بالقوى االغيبية التي تحرك أحداث الواقع.
كثيرون هم من يرون تناقضًا بين الواقعية والرومانسية،؛ حيث تركز الأخيرة على الطموحات العالية للأفراد، وخيالهم الذي يجنح بهم في آفاق بعيدة عن أرض الواقع، وهو وهم نتج عن تصور أن الواقعية انطلقت من منطلق الرفض للحلم الرومانسي وما يتبعه من خيال مجنح، وقد شاع ذلك لفترة طويلة وعقود متتالية من القرن العشرين الماضي، حتى جاءت المذاهب الحديثة، وبخاصة البنيوية وما تولد منها من أسلوبية وبنيوية توليدية وعلم اجتماع الأدب والتناصية والتفكيك والثقافية والنسوية أخيرًا، لكن المتأمل بعمق للفكرة يعلم جيدًا أن المسألة مختلفة؛ حيث إن الأشخاص الذين يعيشون حالة وجدانية هم أفراد المجتمع ولا يمكن فصلهم عنه.
إبراز لدور النساء ما بين أم جبارة مكافحة تربي ابنها ليكون هذه الشخصية، وزوجة لعوب تعبث بشخصيات الرجال وتخضعهم لها باستغلال فتنتها وقدرتها الغريزية المتأججة ومن البديهي والمعلوم جيدًا أن الرواية بنت الرومانسية؛ فقد ظهرت مصاحبة لها أو مواكبة، وذلك أن الرومانسية تعلّى من قدرة الفرد على كسر التقاليد والصعود إلى القمة في مجال الحياة وتحقيق الثراء المادي، ولذلك كانت الشخصية الرئيسية في الرواية أو القصة القصيرة تسمى البطل hero، وذلك في موازاة تامة للنقلة الحضارية التي أحدثتها الرومانسية بفضل ظهور الطبقة البرجوازية – المتوسطة في عرفنا – وانتصارها على نظام الاستعباد الذي كان يطبقه النظام الإقطاعي السابق عليه.
هكذا يأخذنا صلاح شعير في رحلة جميلة إلى كفر الهوى، وهي قرية من الريف المصري التي بدأت تخلع أثوابها القديمة لتحل محلها مظاهر التمدن والتحضر، ويطلعنا على قصة شاب نابه من شباب القرية مات أبوه وهو صغير، وقامت أمه بتربيته حتى حصل على بكالوريوس الزراعة، وسافر إلى هولندا، ليكتسب خبرات في مجاله ويعود لمصر محملا بالأفكار الحديثة التي تعلمها في أوروبا، ويبدأ في تنفيذ مشروعاته، ويحارب من حساده بكل الوسائل، ولكنه في النهاية ينتصر، ويحقق أحلامه، وهنا يكون الظاهر الواقعي واضحًا فيما يعرف بالبنية السطحية للعمل، والذي يكون من ورائه أهداف وأفكار – وجهة نظر بمصطلح السرد الحديث – وفي ثنايا هذه الأحداث تشتعل الوجدانية والعاطفية، ويعالجها كاتبنا شعير بشيء من المشاكسة الوجدانية.
سيجد قارئ هذه الرواية أن المبدع – السارد – حاضر بكل مشاعره في مشاهد هذا الخيط الوجداني؛ الذي يمكن أن نقول عنه إنه خيط رومانسي بامتياز، وليس ذلك لأن البطل يعيش قصة حب بينه وبين محبوبته رجاء، ولكن لأن الكاتب اختار هذا الشكل القديم من السرد، وبالطبع ساعتها كان يسمى “فن القصة” أو “فن الرواية” حيث كانت أحداث الرواية تدور حول شخص أساسي، والكل يخدمه، وتصبح كل الشخصيات خادمة له لإظهار بطولته وقدرته على مواجهة المشكلات والتغلب عليها والخروج منها فائزًا منتصرًا، وغالبًا ما تستمد هذه الشخصية – البطل – ملامحها من المأثور الشعبي عربيًا كان أو مصريًا؛ من السير الشعبية المعروفة مثل السيرة الهلالية وفارسها الكبير أبوزيد الهلالي: وسيف بن ذي يزن، والظاهر بيبرس، والأميرة ذات الهمة، كذلك السندباد في ألف ليلة وليلة، حيث يخرج البطل دائما منتصرًا مهما كان الأهوال التي يقابلها.
وهكذا كان “غريب” في الرواية؛ الحصول على بكالوريوس الزراعة بالرغم من فقده لأبيه وتولّي أمه تربيته ورعايته؛ إلى حرصه في تنظيم دخله وتنميته بالرغم من قلقه من الهجرة غير الشرعية التي كانت على قارب متهالك سرعان ما انهار وتفكك في عرض البحر الأبيض المتوسط إلى نجاته من الغرق، وقدرته على السباحة لمسافات طويلة جدا وهو يحمل فوق ظهره الطفلة “هند” التي فقدت أبويها في هلاك المركب نفسه، ثم مقابلته مع “ماري” الإيطالية التي فتنت به، وعاش معها ولأجل الإقامة تزوجها حتى يحين سفره إلى هولندا؛ ثم قضائه مدة بها حتى طور خبرته، وجمع المال، والعودة إلى مصر والقرية لإتمام مشروعه، حيث واجه الأحقاد التي أدت في نهاية العمل إلى تدمير المزرعة ثم إحيائها من جديد لتنتج ويتحقق الهدف المنشود.
في تواز واضح وعلى الخط الآخر من شريط الأحداث تسير المشكلة العاطفية، فهو يحب رجاء جارته وابنة أحد القرويين متوسطي الحال، والظروف التي تحول دون القبول في البداية، وهو ينتصر أيضًا على هذه المعضلات، فيسافر ولم يخطبها ويمارس علاقة متكاملة مع “ماري” التي تزوجها بالفعل من أجل الحصول على الجنسية، كي لا يتم ترحليه، ويصارح محبوبته بهذا الأمر، وتسامحه لأنها تحبه بصدق، ثم تتم الخطوبة بعد العودة وفي ليلة الزفاف تأتي “ماري” إلى مصر معها ابنه “إبراهيم” الذي لم يكن يعلم عنه شيئا، والطفلة “هند”، التي ساعدها على النجاة، ومع هذا نفاجأ بقبول رجاء للأمر الواقع، ويصبح لغريب زوجتان بدلا من زوجة واحدة، ويعيش الكل في هناء وسرور، وهذه قمة الرومانسية.
ينجح صلاح شعير في رسم هذه اللوحة الجميلة المتضمنة الخطين المتوازيين دون أن يطغي أحدهما على الآخر بلغة رشيقة، يستطيع القارئ المتوسط أن يفهمها بسهولة وأن يتابع أحداثها بشغف، وبخاصة أنه حول اللغة إلى أدوات تصوير أو كاميرا تصور بدلا من الكتابة، وسأشير إلى مثال واحد حيث لا يتسع هذا العرض أو هذه الإطلالة النقدية السريعة:
وفي اليوم التالي حان موعد الموكب الذي سوف يجوب القرية، فتجمع الناس عند المسجد الكبير للحاق بالركب، عندئذ خرج شيخ المسجد يطردهم، وكادوا أن يفتكوا به، تركهم فراراً بحياته، وتراجع عن موقفه عندما وجد نصف الحضور غارقين في الخرافات الشائعة، والنصف الآخر يدخن “السجائر” المحشوة بمخدر “البانجو”، ولكن حدثت معضلة، فلم يجدوا رجلًا يمثل دور الخليفة، أو حصانا ليركبه الخليفة، فأشارت “شفعات” بأن يلبس “شفيق الخفير” زوج ابنتها ملابس الخليفة، ويدور القرية فوق “توكتوك” مكشوف”. (ص 80).
هكذا يصور صلاح شعير المشهد الملئ بالمتناقضات في لغة سهلة ليس بها لفظ واحد صعب الفهم، وربما ظهر ذلك بوضوح أكثر في الخط الوجداني وبالتحديد في علاقة “غريب” بـ “رجاء”؛ فيصف أحد لقاءاتهم ذات مرة بهذه الصورة:
جاءت “رجاء” كالنور فوق حلل الربيع، فنهض “غريب” يستقبلها بأغصان المحبة الصادقة، تشابكت الأيدي، فنزفت أنامل الشوق كالسيل الغزير فوق الأرواح، ساد الصمت فوق الشفاه، جذبها لتجلس بجواره فجلست هينة لينة، فشعر بأن الحنان يظلله من فوقه، ويحمله من تحته، ويغشاه عن يمينه ويغطيه من يساره، كانت لغة الكلام بالهمس والنظرات والأماني تتعانق كأنها القبلات، سادت هيبة المحبين، فخشعت الأشجار من حولهم تقدس طهارة هذا الحب، ورقصت أوراق الأغصان تزف القلبين بالهواء العليل”. (ص 86).
ومع تلاقي المقتبسين إلا أن أختلاف المشهد والموضوع محل الوصف؛ فالأول يعكس حالة واقعية اجتماعية تقف وراءها ثقافة شعبية يرفضها الكاتب ولا يؤمن بها، وفي الثاني يصف لقاء عاطفيًا يتعاطف معه الكاتب تعاطفًا إنسانيًا وفي الوقت نفسه ذاتيًا داحليًا ومن هنا نستطيع أن نقول إن صلاح شعير استخدم شكلين من أشكال السارد، الأول هو السارد المهيمن العليم الذي يدير أحداث العمل السردي ويقوده إلى ما يريد تحقيقه هو نفسه، والثاني هو السارد المشارك وإن بدا مراقبًا للأحوال – لأنه يصف مشاعر ربما يتمنى الجميع لو عاشها، ومن ثم كثرت تعليقاته في هذا الأمر وإضافاته، ومحاولته الإفادة من اللغة المجازية التي تعتمد على التشبيهات والاستعارات ليصنع بها مشهدا تصويريا مؤثرا، وكأنه يدعو القارئ إلى مشاركته الحبيبين مشاعرهما بالإلحاح المستمر في أكثر من موضع في الرواية بأن الحب الطاهر، والقلبان النقيان غير الملوثين بسطوة الغرائز والشهوات هما الصورة المثلى للعلاقة بين آدم وحواء.
سيجد القارئ ذلك وسيجد أكثر منه، إطلالة على الحياة الريفية، وفضح خطط ونوايا الشيطان، وهي تتحرك في داخل النفوس الشريرة لإلحاق الأذى بالآخرين الطيبين، وإبراز لدور النساء ما بين أم جبارة مكافحة تربي ابنها ليكون هذه الشخصية، وزوجة لعوب تعبث بشخصيات الرجال وتخضعهم لها باستغلال فتنتها وقدرتها الغريزية المتأججة، وطرح لميثولوجيا الثقافة الشعبية وتغلغلها في أدمغة الناس فلم تفلح الوسائل الحديثة من تلفزيون ودش وفديو وفيسبوك في محوها أو السيطرة عليها بل ظلت مهيمنة غالبة، وكثير مما يمكن أن يقال لكني أتركه للقارئ يستنبطه بعدما وضعت له إضاءات قد تنير له الطريق؛ ليكتشف بنفسه ما يمتعه عند قراءة هذه الرواية. حيث نجح المؤلف في رسم صورة للمتناقضات الموجودة بالقرية المصرية، وغاص في أعماق الشخصيات وناقش قضايا معاصرة بأسلوب ممتع، وحبكة متماسكة.
ميدل إيست أون لاين