كلام يسقط من قاموسنا المشترك (عباس بيضون)
عباس بيضون
رغم أن وديع الصافي بلغ الثانية والتسعين إلا أن رحيله كان مباغتاً، فقد اعتدنا شيخوخة الصافي كما اعتدنا شبابه، واعتدنا ملاعبته للموت حتى كدنا نظن أن ليس لهذه الملاعبة زمن محدود. إنها ستطول إلى المئة وأن وديع الصافي سيبقى يغني بعد المئة، سيدخل هكذا حياً إلى المتحف. اعتدنا مراوحة وديع الصافي السلسة أمام الموت، لذا فوجئنا باللعبة تنتهي وبوديع الصافي راحلاً.
ستكون اللحظة مناسبة لا لنطوي صفحة بل لننشرها. لا لنفترق بل لنعيد الاتصال. لا لنودع بل لنستقبل ثانية ذلك المدى الذي لم نعد ندري كيف صنعناه وكيف كانت لنا القدرة على فتحه، وبأي عزم وبأي فلاح أدرنا هذه الرقصة فيه وملأناه بمرحنا ووعودنا. مرح زمن كان لا يزال في طفولته وبلد يانع آنئذ ومعاهدة مع المستقبل وفورة قلب وعقل. لكن وديع الصافي مثله مثل سعيد عقل لم يصدقا أنهما غنيا لبلد قفز فوق يناعته وفوق شبابه. فقد في يوم واحد ما كان اجترحه في أوقات سهوه. مشروع جمهورية وبلد واختلاف وامتياز وتراث وفن ولغة خسره مرة واحدة وحلت محله عصابات ومواثيق دموية وصكوك بالية وعهود من ظلام وسدم دامسة، وبالطبع لم يعد هناك قواعد ذهبية ومعايير، ما كان تراثاً لم يعد له وزنه في بلد لا يستحق تراثاً. ما كان لسان شعب وامتيازه هرب واستبدل بتوحش وعمومية وركاكة كاملة.
رحيل وديع الصافي إنذار كما هو احتجاب سعيد عقل. الإثنان كانا هويتين وامتيازين. وديع الصافي لم يأت من الغيم. لقد وجد إرثاً فأكمله، وجد ذخيره فجدد فيها. جعل منها بادئ بدء كيانا وزاد عليه. شربه وتملاه وارتوى منه ونشره وأذاعه وتفنن فيه. وديع الصافي لم يأت من الغيب، لقد بنى على ما لقيه أمامه، كان ما لقيه متسقاً منظوماً عامراً موزوناً، ما لقيه أمامه كان يواصل حياته ويعمر جيلاً على جيل. وديع الصافي وجد ما يتفنن فيه، ما يروضه بصوته وموسيقاه، ما ينفخ فيه ويعيده حياً، لقد كان ذلك أمامه، وجده جاهزاً فعمل عليه. لم يكن بالطبع مجرد مؤد، لم يكن مردداً فحسب، لقد وصل إلى نهايات هذا الفن. رفعه إلى قمته. وصل به إلى ثمالته، لم يكفه الموروث، كان لديه ذلك الصوت الذي هو مقام على المقام وموسيقى على الموسيقى. لقد عمّر مما هو معمر أصلاً. بنى مما هو مبني، وما عمره، ما بناه كان تأسيساً جديداً. كان بناء على بناء وعمارة من عمارة. جعل لهذا التراث قامة وحضوراً. منحه عمراً آخر. صوته كان أكثر من فولكلور. والفولكلور بصوته صار أكثر من زخرف وتكرار وأداء. الفولكلور بصوت وديع الصافي كان يعود إلى منابعه ويلامس الملحمة الإنسانية. يعود إلى الجبل وتاريخه وفصول حياته ويصارع من جديد الصخور التي ينفلع منها ويخرج من نخاريبها، يعيد الماضي الريفي بكل تظاهراته وأحواله. بكل مشاقه وأبعاده، بأعراسه وفراقياته وندبه. يستعيد حياة كاملة في ذلك الصوت الذي يرق ويهمس كما يمتشق وينبثق وينسرب ويتهدج ويتغنى ويتذكر ويعاتب ويلوم. ذلك الصوت الذي يقف على حفافي الملحمة الإنسانية وعلى الوجع والشوق والحنين وعلى الجرح والوجع وعلى النداء والنجوى، وعلى الشجن والمواساة وعلى الكدح والعرق والشقاء، وعلى الانتظار والوعد والتاريخ والوجد والعهود، صوت يبدأ من قراءة الشعب ليؤسس ذاكرة شعب وليؤسس حكاية شعب. معه نتأكد أن ثمة ماضياً عريقاً لهذا الشعب وذلك الجبل، معه نعرف أن ثمة تراثاً حقيقياً لهذا البلد الضائع في انقساماته حتى ليبدو أن لا شيء يجمعه، وحتى يبدو أنه لم يحصل شيئاً ولم يرب ذاكرة أو ماضياً أو تاريخاً.
يباغتنا رحيل وديع الصافي لأن رجلاً بهذا الحجم يؤكد غيابه لنا أموراً كدنا ننساها. ونحن نعمل على نسيانها. غياب بهذا الحجم يشبه سقوط جبل أمامنا. لأننا فقط في هذه اللحظة نشعر أننا نفقد أكثر من رجل. إننا نفقد معه صدى الماضي الذي كان قميناً به أن يجمعنا. لأننا بغياب وديع الصافي نستيقظ على ما كاد يغيب عنا، أن لنا تراثا مشتركاً. أي أن لنا كلاما مشتركاً، وأن هذا الكلام المشترك صار هكذا عبر حقب وأجيال. ما نفعله اليوم هو بالتأكيد خسارة لهذا الكلام، خسارة لذلك الماضي ولذلك التراث. خسارة لما يمكنه أن يجمعنا وأن يشركنا في كل شيء، أننا وبغته نعرف، بغياب وديع الصافي، أننا نملك ما نتخاطب به، ليس فقط مع بعضنا ولكن مع أجيالنا، وأننا، بما يشبه الحمق، نرميه جانباً.
هكذا، مع رحيل وديع الصافي، نشعر أن جزءاً من كلامنا المشترك، ينزاح، وأن لغتنا العامة تنقص شيئاً فشيئاً، وأن اجتماعنا يغدو شبحياً ويزداد في كل يوم انقطاعاً وتوارياً.