كلّ شيء سياسة حتّى الأدب
عندما نطق الروائيّ السويسري جوتفريد كيلر بمقولته الشهيرة ” كلّ شيء سياسة”، كان مُدركاً مدى الارتباط الوثيق بين الأدب والسياسة. فكلّ فعل أو ردّ فعل أو فكر أو عاطفة أو سلوك يرتبط بحياة الإنسان وبصراعات المجتمع والدولة، أي يرتبط بالسياسة، سواء كان ذلك عن وعي أم عن غير وعي. فقد ظلّ الأدب المتنفَّس الوحيد للنقد الاجتماعيّ والسياسيّ، وخصوصاً في الدول ذات الأنظمة التسلّطية أو الشمولية أو حتّى الهجينة.
الأدب أداة من أدوات التغيير السياسي والاجتماعي، ويعبِّر عن روح الأمّة وأزماتها وطموحاتها، من خلال تنوير الجماهير والقادة على حدّ السواء بحقيقة الأوضاع السياسية والاجتماعية، وتجسيد أزماتها العامّة، وتصوير كيفيّة الخلاص، بحيث يتمّ ذلك في الرواية مثلاً من خلال الشخصيّات، لقد زخر تاريخ الأدب الروسي بالعديد من النماذج الدالّة على ذلك، وحقَّق هذا الأدب العالمية من خلال اهتمامه بالأوضاع السياسية والاجتماعية ونقدها، والتوجّه نحو تصوّر مستقبل أفضل. فكان الكُتّاب الروس مُعلّمي شعبهم وقادته. وكذلك الحال بالنسبة إلى الأدب العربي، الذي لم يكُن بمعزل عن السياسة منذ نشأته، إذ اهتمّ بالأحوال السياسية والاجتماعية للشعوب والقادة العرب على السواء. فرواية “عودة الروح” لتوفيق الحكيم أثَّرت في تشكيل فكر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وفي تكوينه.
كما تناول الأدب العربيّ مختلف القضايا والأزمات التي تعرَّض لها العالَم العربي كمقاوَمة المحتلّ أو المُستعمِر القديم والجديد، ونقد القهر السياسيّ ونقضه، وطالَب بالحرية. وبالتالي كان الأدب بمنزلة أداة للوعي السياسي وللتغيير في الوقت ذاته.
الأدب أداة للوعي السياسيّ
عبَّرت الرواية العربية عن أساليب القهر السياسيّ من خلال تصويرها واقع القمع والاضطهاد والتعذيب الذي سيطر على الحياة السياسية العربية وقامت بإبرازه. هذا القمع الذي كبَّل الإنسان العربي، وغيَّب حقوقه الإنسانية العامّة والخاصّة، ومنعه من تناول أمور مجتمعه ووطنه بحرّية وديمقراطية. فناهضت الرواية العربية القهر السياسي والإرهاب الفكري والتعذيب المادّي والمعنوي. وعلى الرّغم من مصادَرة المستعمِر الصحف، والكتابات الوطنية المُباشرة، إلّا أنّ الرواية لعبت دَور البديل عن الصحافة المُصادَرة، بما تملكه من أدوات تعبيرية، بحيث عبّرت عن رفض الشعب العربيّ للاستعمار وحثَّت على مقاومته. فصوَّرت الرواية العربية مقاوَمة المحتلّ بصوَر عدّة، أبرزها: المقاوَمة الكلامية، ومقاوَمة الشعب، والأعمال الفدائية، والنضال السياسي والحزبي.
لقد قدَّم الروائي عبد الكريم غلّاب نموذجاً عن ارتباط الرواية بحركة المقاوَمة الوطنية من خلال سيرته “سبعة أبواب” وثنائيّته الروائيّة “دَفَنّا الماضي”، و”المعلّم علي”. وجاء تصويره لمدينة فاس المغربية، مدينة التراث العربيّ والإسلاميّ، تعبيراً عن صلابة المقاوَمة المغربية. وفاس هي العاصمة الأولى للمغرب، وفيها أقدم جامعة عربية إسلامية في العالَم في جامع القرويّين، وخرج منها عظماء المسلمين أمثال ابن خلدون، وابن الخطيب، والبطروجي، وابن باجه، وابن ميمون.
ينقل غلّاب كلمات المحقِّق الفرنسي (المحتلّ) معه في السجن وانطباعاته عن قوّة فاس وتأثيرها الكبير في أعدائها، في روايته “سبعة أبواب”( 1965)، كما يلي:
– ” اسمك..؟ اسم أمّك؟ أسم أبيك؟ محلّ ولادتك..؟
– فاس.
– آه أنتَ من فاس.
– وبرقت عَين الرجل، وما استطعت أن أفسّر المعاني التي تداعت في نفسه وهو يسمع كلمة فاس، ويردِّد الكلمة في حنق وغيظ. فلمدينة فاس في قلوب هؤلاء المحتلّين ذكريات سيّئة، ولأهل فاس في نفوسهم مكان غير مكان المُدن الأخرى”.
ويطرح الروائي مبارك ربيع في روايته “الريح الشتويّة” (1977) معاناة الإنسان المغربي من جرّاء سيطرة الاستعمار الفرنسي على أرضه واقتصاده، ويُطلق على بطل الرواية اسم “العربي” إدراكاً منه للقضيّة الوطنية المتمثّلة في ضرورة تخلّص العالَم العربيّ من المحتلّ أيّاً كان. ويؤكّد على معنى “فشل العربي في استرداد أرضه عن طريق العدالة الفرنسية”، فيصوِّر تجمّع الفلّاحين المغاربة عند لجوئهم إلى ساحات المَحاكم وقُضاتها الفرنسيّين بحثاً عن العدل، بينما يعلو تمثال بطل فرنسيّ يجلس تحته الفلاحون بانكسار، فيتمّ التقابل بين عظمة التمثال، وضآلة المنتظرين لمصيرهم.
وفي رواية “شرق المتوسّط” لعبد الرّحمن منيف، ثمّة عبارة بكلمات قليلة ومعانٍ كبيرة: “هذا واحد من شعب سجين”؛ عبارة قالها الطبيب الفرنسي الذي سأل البطل عن أسباب أمراضه وتاريخها، فأرجعها الأخير إلى التعذيب الوحشي في السجن.
هكذا، مثَّل الأدب بحقّ أداة للوعي السياسي العربي سواء في تصوير سلوكات المحتلّ البربري والعدواني والغشيم وتصرّفات، أم في تصوير مقاومته.
الأدب أداة للتغيير السياسيّ
بعد رفع درجة الوعي السياسي تأتي المُناداة بالحرّية، والاستقلال. بمعنى آخر، تأتي مرحلة التغيير التي ينعم فيها العرب بحرّيتهم وبمستقبل أفضل. وفصل الأدب كأداة للوعي السياسي عن الأدب كأداة للتغيير ما هو إلّا فصل تجريدي، الهدف منه فهم عميق للأداتَين، مع الإعتراف بأنّ الواقع لا يعرف هذا الفصل. فنجد “حمزة” بطل رواية يوسف إدريس “قصّة حبّ” يتمسّك بمصر وشعبها عن يقين وثقة بتوافر عناصر المقاوَمة الوطنية التي لا تنتظر سوى التنظيم. وعندما يهرب من أيدي السلطة لا يفعل ذلك خوفاً من العقاب، بل حرصاً على استمرار المقاوَمة الوطنية الصلبة التي لا تلين، فحمزة عضو في اللّجنة العامّة للكفاح المسلّح.
في رواية “قصّة حبّ” أيضاً، يبدو الشعبُ مصدرَ إلهام بطل الرواية “حمزة” ومصدر إيمانه؛ إذ اتّخذ من الحبّ وسيلة لامتزاجه بوجدان الشعب وانتمائه للمجتمع. كما أنّ ازدياد الإرهاب كان حافزاً لاشتداد النضال والعمل على التنظيم وازدياد الثقة بالناس.
في رواية “العودة إلى المنفى” لمحمّد أبو المعاطي، قام البطل المُقاوِم عبد الله النديم بمهمّة تثوير الجماهير، وتسييسها، وتطوير أفكارها، من خلال “الطائف” الجريدة الشعبيّة التي أصبحت الجريدة الرسمية للثورة، ونادى بضرورة قيام قادة الثورة بالحسم وعدم التردّد مع أعدائهم في الداخل أو الخارج. إذ يتساءل ” ترى هل جاء الوقت ليقف هؤلاء الرجال على أرجلهم، مُنتصبين في وجه الشمس؟ ترى هل جاء عصر الحشود الكبيرة، العامّة؟”.
ونادى أيضاً بأنّ ” الجنّة للشهداء، ومصر للمصريّين، مصر التي حلم بها دائماً، وأثارها في أحلامهم: مصر بلا ديون، وبلا سخرة، وبلا ضرائب ظالِمة، ومصر الجيش للجنود، ومصر الأرض للفلاحين، ومصر الوظائف والإدارات للمتعلّمين، ومصر المَدارس والمصانع للأطفال والشباب، ومصر الحرّية والكرامة للجميع”.
وتمثِّل رواية “بين القصرَين” للأديب المصري والعربي والعالَمي نجيب محفوظ، إدراكاً لحقيقة الواقع ومناداةً بضرورة تغييره لتحقيق الاستقلال. فيقول “الشيخ متولّي” إحدى شخصيّات الرواية إنّ ” الإنجليز لن يخرجوا إلّا بالقتال وليس بالوفود المُسافِرة إلى الخارج”.
وتمثّل رواية “القطار” لصلاح حافظ أداة للوعي والتغيير السياسيّين في الوقت عينه، إذ أشارت إلى أحداث ثورة 1919، حيث جاء فيها: ” والله إن جابوا عسكر البلد كلّه، ما ينفع إحنا عملنا جمهوريّة من ثلاثين سنة”، فضلاً عن تقديمها صورة المسجونين الثوريّين في مواجَهة أزمة الحرّية: “ويطالبون بأشياء كثيرة مزعجة، وكاد المدير يجنّ ولكنّه لم يستطع أن يفعل شيئاً، وقد وافق على كلّ ما أرادوه، وتحوّل السجن إلى فوضى، ولم يعُد أحد يدري كيف يكلِّم المسجونين”. وكان الحلّ الوحيد للتخلّص منهم حملهم في قطار إلى المنفى في أقصى الجنوب.
كما بشَّر الكاتِب بانتصار الثوّار ونجاحم في قيادة الجماهير المصرية طولاً وعرضاً، على الرّغم من أنّهم محبوسون في قطار، مقابل انتظار الجماهير في آخر محطّة للقطار في الجنوب، وكثافة وجود العساكِر حول المحطّة ومنْعهم من اقتراب أيّ شخص منها: ” فهمتُ أنّ هناك خيراً ستصيبه إذا دخلت المحطّة… وإلّا فلماذا يضرب العساكر الذين يقتربون؟ إنّ مهمّة العساكر دائماً هي أن يمنعوا الخير عن الناس… وعلى الناس عندئذ أن يُقاتِلوا… وهكذا اندفعت الموجة الجديدة كالطوفان…. فاكتسحت في طريقها العملاق الأسمر… وتعالت الأصوات بالشعار الثوريّ كالرعد: الأرض للفلّاحين”.
هكذا تعدّدت الروايات التي عبّرت عن الواقع والطموح، عن الآلام والأحلام، عن الكابوس والغد المُشرِق، فجاء تعبيرها راصداً لواقعٍ سياسيّ مرير في الكثير من الأحيان كأداة للوعي السياسي– وفي فترات كثيرة كأداة وحيدة– للجماهير والقادة، كما كانت أيضاً أداة تنشد التغيير وترسم مساره – كأداة وحيدة في أغلب الأحيان– إلى أن توصله إلى برّ الأمان.
نشرة أفق (مؤسسة الفكر العربي)