كل شيء في الغرف المغلقة

ـــ ١ ـــ

كأن لهذه الهستيريا نهاية.

كأن الولع باحتكار السلطة والثروة والسلاح يمكن أن يتوقف بهبوط الوحي على نبي منتظر، نائم تحت شجرة هنا أو يختبئ في كهف هناك. كأن لهذه الشعوب أن تنال الحنان بمجرد انتظاره، أو بإصرارها على قتل الفرد وإحياء القطيع. كأن التوافق الذي لم يتم لاختيار رئيس في لبنان، والمصالحات الغامضة بين السيسي والإخوان، أو قرار اللاحرب واللاسياسة في ليبيا، أو انتهاء استعراضات التأسيس الثاني للمملكة… كأن كل هذا يمكن أن ينتهي كما تنتهي مسلسلات رمضان بإرضاء «جماهير ما» أمام «شاشة ما..» تعود إلى غرف النوم سعيدة وراضية بعد «التطهر» في مسرح قسوة يومي.

لكن الواقع ليس ميديا تقتل جمهورها وتحييهم في الأمسيات. والشعب الذي أصبح جمهور متفرجين لا يعي نفسه بعد ككتلة لا تستحق الرثاء، أو التبرم. ولم تنتشر أفكار عن معنى جديد للشعب، كما تنتشر برامج الكاميرا الخفية التي تتصيد الإثارة وتعتمد على الغلظة لتسعد جمهوراً متعطشاً لانفجار الغرائز الكامنة.

في هذا الواقع لا حيل قديمة تنفع. ولا تحويل الآلام إلى أرباح أصبح ممكناً كما كان يحدث خلال خمسين سنة من «الماضي» الذي لم يكن جميلاً كما يراه عباد النوستالجيا.. وإلا لماذا نعيش حاضراً ليس فيه إلا انتظار النجاة من الجحيم؟

ـــ 2 ـــ

نعم الماضي لم يكن جميلا…. لنفكر ونعيد مراجعاتنا لما ارتكبنا من تواطؤ ضد وجودنا، واستسلامنا إلى أكاذيب وخرافات أسست لهذا الجحيم الفاخر الذي يشاركنا العالم كله في الاستثمار به. الخطابات الفخمة مفرومة في ميديا تحت سيطرة شبه تامة لإمبريالية إقليمية توزع المعونات وتبني تحالفاتها مع صناع القسوة وأمراء الدم، بما يمكن للمال أن يفكك الأفكار، ويحولها إلى سائل من البيزنس لا يتوقف.

اقرأوا جيداً وثائق «ويكليكس» المهربة من مخازن الخارجية السعودية لا لتبحثوا عن فضائح أو تدبجوا قوائم العمالة والخيانة، ولكن لتكتشفوا إلى أين وصلنا..؟
في هذه الوثائق صورتنا كما لا نحب أن نراها… كما يصنع الركود الذي حافظت عليه فوائض البترول، لتتوقف كل محاولات تقوية المجتمع لصالح تكريس سلطات تدافع عن نفسها في مواجهة خطر خارجي من سلطات تدافع عن نفسها أيضاً.

ميزة هذه الوثائق ليس في فضحها لأشخاص، ولكن لما يدور في الغرف المغلقة، حيث الحقائق عارية، من دون ديباجات الزينة والزركشة المعتادة من أجل الجمهور/ الشعب الطيب.

ـــ 3 ـــ

… وفي بلاد ابتلعتها الغرف المغلقة.

لا اجتماع مدنياً. ولا مجتمع، بل شعب يعبر عن «كتلة» أو «جسد» يرادف في معناه «الوحش المسكين» الذي يجب إطعامه وترويضه، وتدليله بكلام مستوحى من الثورة الفرنسية عن «حكم الشعب» لتناديه السلطة «يا شعبي…» ذلك النداء الذي يعني «يا تلك الكتلة المستبعدة… إبقي مكانك… سنحكم باسمك… وسنستدعيك حين تطلب الحشود..

طلبت الحشود تحت رايات الهويات (القومية/ الطائفية/ المذهبية) وبإدارة من الغرف المغلقة وحروبها التي لا يعرف سرها… وهذا سر قوة وثائق «ويكيليكس» التي اعترفت الخارجية السعودية بأنها «تتوافق مع سياسات المملكة» والتي يبدو أنها تعتمد بشكل كامل على حركة المال لتجميد الأفكار… أو بمعني آخر الاستسلام لقوة «الأمر الواقع»… وبقاء الحال على ما هو عليه… رهن أقدار الغرف المغلقة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى