
في كتابات المبدعين الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية ما يثير التّأمل في مسألة التّحرر. وهي ليست حرية سطحية تعبث بالأشياء هنا وهناك، بل هي حصيلة أعوام لم تذهب سدى أبداً.
في كتابات المبدعين الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية ما يثير التّأمل في مسألة التّحرر. وهي ليست حرية سطحية تعبث بالأشياء هنا وهناك، بل هي حصيلة أعوام لم تذهب سدى أبداً.
لقد كانت بمنزلة حفر عميق في معاني كل الرؤى والأفكار والفلسفات في هذا العالم لفهمه واكتشافه من جديد، ليس من باب التحدي فقط، لكن للانطلاق نحو فضاءات لا يعرفها كثيرون، تؤسس لمعايير ومفاهيم كانت مغيّبة وغائبة في هذا العالم من قبل. وهذا هو معنى التأسيس الحرّ، تماماً كما فعلت غزة حين أعادت تعريف الأشياء للعالم وكشفت أقنعة كثيرة ملونة وفاضحة.
ونحن نشهد انطلاقة الأسرى الفلسطينيين إلى الحرية، نكتشفهم من جديد، ونرى في كتبهم ذلك الضوء السري تحت الزنازين الذي لم يره أحد من قبل، لنعرف كم هم أحرار، وكيف يصبح الخروج إلى الضوء نتيجة بديهية لمبتكري الضوء.
الأسير المحرّر من سجون الاحتلال
وكميل أبو حنيش، الشاعر والروائي والمفكر، ابن قرية بيت دجن في نابلس، خرج أخيراً إلى الحرية مع مجموعة من المبدعين. أصدر قبل عام دراسة نقدية شعرية فلسفية للنص النثري التاريخي المشهور للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا وهو «اللاطمأنينة» (دار الطباق ـ فلسطين).
وعندما خرج كميل أبو حنيش من السجن، بدأ يبحث عن كتبه ورواياته التي لم يرَ منها سوى العناوين التي كانت تصله سرّاً، أو أحاديث الرفاق عنها. كان يلمس الشاشة كما لو كانت نافذة إلى عالمٍ جديد، فيرى غلاف رواياته على متاجر الكتب الإلكترونية، ويكاد لا يصدق أن بوسعه أن يشاهدها، أن يقرأها، أن يقتنيها!
سأل مندهشاً: «هل يمكنني حقاً شراءها؟ وكيف يكون ذلك؟ وما الفرق بين النسخة الورقية وتلك التي يسمّونها إلكترونية؟»
وحين وقعت عيناه على غلافٍ مألوفٍ بشكلٍ غامض، صرخ مبهوراً: «هذا تحليلي لكتاب «اللاطمئنانية» لبيسوا… أيمكن أن يكون قد نُشر فعلاً؟!»
ابتسم، وفي عينيه خليط من الفرح والدهشة والحنين؛ كأنه يرى نفسه مطبوعة على الورق بعد أعوامٍ طويلة من العتمة.
وعبر الشاعر «المحرر» أنه ليس معجباً ببيسوا لكنه حين قرأ نصه النثري المشهور «اللاطمأنينة»، شعر بأنه لا بد من كتابة نقد حول فلسفته.
في دهاليز «اللاطمأنينة»
كتب الشاعر البرتغالي المعروف صاحب الأنداد الشعرية المتعددة كتاب «اللاطمأنينة» عام 1918 وتُرجم إلى العربية أكثر من مرة، أهمها ترجمة الشاعر المغربي المهدي احريف الصادرة عن «المركز الثقافي العربي».
في هذا النص كما دائماً في نصوص الشعراء النثرية، تبدو خلفية الشاعر الفكرية واضحة بكل أزماته النفسية والسيكولوجية، وهنا يكمن السرّ وراء فهمه لذاته والعالم والأخلاق والثورة والفلسفة والحب والحلم وكل شيء.
يقيّم موقفه الفلسفي الخطير من السياسة والثورة والحرية
علماً أنّ الشاعر الكاتب العالمي والشاعر العالمي هو محط اهتمام الكثير من الشعراء والمفكرين في كل مكان. ولهذا يصبح من المهم الاطلاع على رؤية نقدية نادرة لشاعر كان أسيراً سابقاً، وكيف يقرأ أحد هؤلاء الشعراء المهمين الذين شكلت قراءتهم إحدى أهم محطات الشعرية العالمية، وأفكار المركزية الغربية رغم أنه برتغالي. لكن الشاعر كميل يمثل تميزاً حقيقياً في نقد هؤلاء الشعراء رغم تقديره لعمله وعدم تبخيسه من قيمته الفنية.
لكن التحرر الحقيقي هو أنه لا يتبع رؤى سابقة وأحكاماً قرأها عن بيسوا، ولا يبتغي نقد شاعر عالمي لأنه يرغب بتلك الأهمية، بل لأن الصدق الحقيقي قادم من قراءاته المختلفة للفلسفات الغربية التي شكلت أزمة الإنسان الأوروبي المعاصر حتى اليوم.
التفكك النفسي والروحي داخل بيسوا
ولذلك نرى كميل يذهب عميقاً نحو معاني هذا التفكك النفسي والروحي داخل بيسوا، فيقول إنّ رؤية الكاتب ومقارباته حول الإنسان والحرية والسياسة تنطوي على رؤية عدمية وتمثل معاداة للإنسان والتاريخ. ورغم أنه يقدر قيمة الأدب والفن ولكنه سلبي ومتشائم جداً.
ورغم كتاباته الشعرية واهتمامه بالأدب، يعتبر بيسوا أنّ الحياة بلا غاية ولا جدوى، مستخدماً عبارات مثل القرف والغثيان والاختناق لوصف إحساسه من الوجود.
يخطو بيسوا خطى الفيلسوف والشاعر نيتشه في دعوته لكسر القيم والأخلاق والتجرد الكلي من جوهر الحضارة، مستخدماً المطرقة نفسها الذي سمّاها نيتشه موت الإله.
ولعل تلك المقاربة بين الشاعر بيسوا والفيلسوف نيتشه جديدة ليس لأنّها تطرح الأفكار المتشابهة بينهما، بل لأنّها ترسم لنا أصل الفلسفات النيتشوية التي أدت إلى أزمة الإنسان الأوروبي المعاصر في زمن الإمبريالية والتي يبني بيسوا جل أفكاره عليها. «فقد شكلت المرحلة التاريخية التي عاش فيها الكاتب مناخاً للإحساس بالاغتراب، وهي التي مهّدت الطريق لظهور الفلسفة الوجودية العدمية. وهي ذات المرحلة التي ظهر فيها كامو وسارتر وهايدغر وآخرون».
موقفه من الحرية
ما هو جلي وواضح في فلسفة بيسوا، هو ذلك الموقف الفلسفي الخطير من السياسة والثورة والحرية. يقول كميل: «إذا دققنا النظر في موقف بيسوا من الحرية، سنجد أنّ موقفه مرتبك ورجعي في غالب الأحيان ومتأثر بفلسفات قديمة ومندثرة». ويحلل الكاتب ذلك بأنه يرى الثورة والإصلاح أنها تعبير عن عجز الإنسان عن السيطرة على ذاته. ويعتبر أبو حنيش أنّ هذا الموقف المعادي للتاريخ لا يفهم الثورات ولا مضامينها وأسبابها.
ومن الجدير بالذكر أنّ الكاتب والشاعر الفلسطيني يستدرك ذاته بأنه لن يتهم الكاتب بتبرير الاستعمار والإبادات والظلم، لكنه يقوّم هذه الحركات من منظور ذاتي يتقاطع مع أيديولوجيات يمينية.
ربما يمكننا اعتبار هذه الدراسة هي نقد لفلسفة لا تخص الشاعر بيسوا بشخصه أو شعره، إنما لفلسفة وجدت تقاطعاتها في العقلية الاستعمارية في الغرب تحديداً وطبعاً هناك أيضاً فلسفات على الجهة الأخرى تنويرية وتنتصر لمفهوم الحرية في الغرب، لكنه أيضاً يجد تلك الجذور التي برزت في تلك المرحلة حيث يذكر ذلك بوضوح قائلاً: إذا كان لأوروبا وجهان، وجه حضاري وثقافي في الداخل ووجه آخر استعماري إمبريالي وعنصري في الخارج واستخدمت الخطاب العرقي الاستعلائي الذي يضيف البشر إلى أمم متحضرة وأخرى متخلّفة تحوّل إلى مادة استعمالية وحسب بيسوا فإن هذا القانون هو قانون الحياة.
ولكن ما يثير الاهتمام حقاً في دراسة شاعر وروائي فلسطيني أسير لشاعر برتغالي هو موضوعيته ورؤيته لجذور أزمته التي يناقض فيها نفسه ولا يعرف سر وجوده مع أنه في المقابل يعترف بأهمية الأدب والكتابة في الحضارة الإنسانية ويعترف أن الشعر عالم كلي قائم بحد ذاته.
وهنا يعتبر أن قراءة أفكار بيسوا ونقدها والتحرر من الأفكار المسبقة عنه هو فعل تحرري ثقافي وشعري في آن واحد من دون التبخيس من قيمة أعماله الشعرية.
ألم يتساءل دائماً بيسوا عن معنى هذا الوجود على لسان ذواته وأنداده المتعددين وهنا حيث يقول:
أيتها الموجة ا
صغيرة تعودين إلى البحر الذي جاء بك،
وفي رجوعك تتبعثرين، كأن البحر لم يكن شيئاً-
لماذا في رحلة عودتك، تأخذين غيابك فقط؟
لماذا لا تأخذين قلبي إلى ذلك البحر القديم؟
لقد حملته لمدة طويلة وتعبت من الإحساس به.
خذيه في تلك الهمهمة الخافتة
الهمهمة التي بها أسمع هروبك!
صحيفة الأخبار اللبنانية



