كورونا يغتال عاشق بغداد

 

اختطفت جائحة الكورونا عاشق بغداد رفعة الجادرجي. فقد توفي يوم الحادي عشر من أبريل/نيسان في لندن، ولم يتسن لأحبته ملامسة بعض آلام هذا الرجل الذي عشق بغداد حتى النفس الأخير

قالت زوجته بلقيس شرارة : “منذ شهر ورفعة في المستشفى في حالة صحية ميؤوس منها، صُعقتُ حينما علمت أنه مصاب بفايروس كورونا الذي لا شفاء منها في حالته“.

ولكي ألقي بعض الأضواء على شخصيته، عليّ أن أقتبس بعض الشذرات من الكلمة التي قيلت فيه من قبل جامعة كوفنتري التي سلمت إليه شهادة الدكتوراه الفخرية في حفل مهيب يليق به:

“رفعة الچادرچي، معماري معاصر ومنظّر وأكاديمي عراقي معروف عالميا، كرّس حياته المهنية للمزاوجة بين العمارة المحلية والتكنولوجيا الحديثة. ولد في بغداد، والده كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي. في طفولته كان يعشق القراءة والتصوير الفوتوغرافي. أسس مكتباً استشاريا في العراق من عام ١٩٥٢ حتى عام ١٩٧٨ . وقد أصبح زميلا فخريا في المعهد الملكي والمعهد الأميركي للمعماريين. وهو مؤلف معروف، كتب العديد من الكتب والأبحاث باللغتين العربية والإنجليزية.

وتقديرا لإسهاماته تتشرف جامعة كوفنتري وبقرار المجلس الأكاديمي منح الدكتوراه الفخرية لرفعت الجادرجي. ”

بعد نجاح ثورة ١٤ تموز، كانت الجماهير ترفع اللافتات التي تحمل مطالبهم، مما أوحى له أن يصمم قاعدة لتمثال الحرية، الذي يبدو على شكل لافته حجرية عملاقة، هذا التمثال الذي كان من إبداع الفنان الراحل جواد سليم، والذي يمثل ملحمة حجرية تحكي نضالات الشعوب للوصول إلى الحرية. تلك الحرية التي كانت حلما لجيل جواد سليم ورفعة الجادرجي، ولم تتحقق حتى اللحظة الراهنة.

كما قام بتنفيذ نصب الجندي المجهول. والذي يمثل امرأة تجثو على قوائمها كي تحمي ابنها الذي مات مجهولا وبقيت شعلته. هذا النصب الجميل الذي ينساب كموجة نهرية أنيقة، والذي كانت بغداد تزهو به تم هُدمه بأمر من صدام حسين نفسه. وقد قام الفنان رفعة بتصوير لحظة إزالة نصب الجندي المجهول، وكانت من اللحظات المؤلمة التي جعلته يشعر بأنّ الكيان المعماري الذي يتم تدميره بإرادة شخصية، سينعكس هذا الدمار على الكيان الاجتماعي برمته، وهذا الاستشعار قد تحقق فعلا على أرض الواقع. وقد حلّل الفنان رفعة فكرة هدم آثار ومنجزات الماضي بقوله:

“نحن متأثرون بالبدو، فالبدوي بلا ماض ولا مستقبل، لأنّه لا يمارس حرفة ، فقط صاحب الحرفة هو الذي يحافظ عليها”.

وهذا يفسر كيف إننا كعراقيين قد خربنا الكثير من النصب والآثار لأسباب مختلفة وتافهة، فقد قيل إن الباب الشرقي لبغداد، قد دُمّر من قبل الأهالي الذين بنوا من حجارته بيوتهم!

وكذلك فعلنا بالنصب التي تعود إلى العهد الملكي. وهذا ما يجعل تفسير رفعت دقيقا، حيث إنّ عقلية البداوة ترافقنا، ولم نستطع أن ننزع هذا الكابوس من وعينا، وإلا كيف نفسر تهديم الكثير من النصب الجميلة التي كانت تساهم في رسم تاريخ بغداد المعماري؟

كان رفعة الجادرجي يطمح أن يرسم بغداد وفق ما يحلم به من عمارة، فقد كان يرى بأن أغلب عمارات بغداد العالية، قد شوهت معالمها، وكان يرى بأن البناء يجب أن يكون مزيجا من الحاجة والتكنولوجيا، فاذا تغيرت التكنولوجيا فيجب أن ينعكس ذلك على الحاجة. لذا فهو يرى بأن الطراز المعماري العربي لا علاقة له بالمكننة الحديثة. كما تناول مسألة الإسراف والإنفاق في البناء، فكان يدعو إلى الاقتصاد في المعمار لينسجم مع ما يحيط به.

رفعة الجادرجي ليس بالمعماري الذي يصمم البناء فقط، بل كان يمتلك الرؤية في تحقيقه، فهو كالفيلسوف الذي يربط بين الفكرة والحاجة إليها، بين الحجر كبناء ووعي استخدامه، ومن هنا تكمن جمالية الفن المعماري الذي يعتمد على أعلى درجات حرية الاختيار، بمعزل عن المرجعيات الاجتماعية أو الدينية.

كان الراحل ذا ثقافة موسيقية عالية، وكان يستشهد دائما بالقول المشهور: “من يفهم سيزان في الرسم، يفهم بتهوفن في الموسيقى”.

فالفنون متكاملة ومتجانسة يحكمها الوعي والذوق. وقد اكتسب هذا المعماري والفنان إحساسا موسيقيا، جعله يرتقي في ثقافته ووعيه، حتى أنّه حينما تعرف على شريكة حياته السيدة بلقيس شرارة، كان أول الأسئلة للتعارف بينهما هو الاهتمام المشترك بالموسيقى والقراءة. وضمن هذا الإحساس الثري، فقد قررا عدم الإنجاب، لأنه كان يشفق على الأرض من عبث الإنسان، وإنه ضد هذا الدفع البايولوجي الذي يخرّب الأرض بسوء استخدام الإنسان لها. ومن الغريب أن هذه الجائحة التي كتمت أنفاسه الرقيقة، هي نتاج لعبث الإنسان بالطبيعة، وكان الفقيد ضحية لهذا الإسراف في تشويه البيئة.

مات رفعة وهو متشبع بالقيم الإنسانية الرفيعة، متسلحٌ بالعلم والمعرفة. وكأنه يقتفي خطواتِ بصير المعرّة أبي العلاء، الذي قال:

“هذا جناه أبي عليّ وما جنيتُ على أحد”.

لقد صمم رفعة علما للعراق ما بعد سقوط النظام السابق، وذلك لأنه يرى أنّه من الناحية التصميمية فأن العلم العراقي الحالي، غير موفق من الناحية التصميمية، ففي علم التصميم لا يلتقي المثلث بالمستطيل. لذلك سعى إلى اقتراح علم جديد يحمل لونين أزرقين يشيران إلى دجلة والفرات، مع التركيز على الأصالة العراقية من خلال الهلال، ولكنّ تصميمه قد جوبه بعاصفة من النقد والتنديد، بحجة أنه يتشبه بالعلم الإسرائيلي. ولكنه رد على الكثير من هذه الأصوات برأي علمي وليس عاطفي، وهو أن تصميمه يترجم تاريخ العراق وجغرافيته، ومن خلال هذا المنظور الفني، يقول الراحل في مقابلة له: “أجمل الأعلام في العالم من الناحية التصميمية المجردة هي العلم الكندي والياباني والإسرائيلي.”

لقد غادر رفعة بغداد منذ فترة طويلة، ولكنها بقيت تعيش فيه وتعشعش في ذاكرته، لقد حافظ على صورة بغداد قبل خرابها من خلال توثيقها فوتوغرافيا، فقد كانت كاميرته ترصد المعالم البغدادية وتسجلها ، فقد صوّر الشوارع والأزقة والدروب القديمة، كما صوّر طرز البناء والشناشيل والزخارف، كما قام بمسح دقيق على طول شارع الرشيد مسجلا كل التفاصيل والأبنية، كما سجلت كاميرته الآثار وما تبقى منها، والجسور وحركتها اليومية، كما صوّر القبب والمنائر والأضرحة. لقد نقل بغداد عبر عدسته التي ترى الأشياء بعين الخبير والفنان الذي يطمح بإعادة إحياء مدينته من جديد.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى