نوافذ

كومة من ورق | لماذا كتبت؟

محمد الحفري

قد تثير الأوراق البيضاء دهشتنا، وربّما تثير خربشاتنا الهامشيّة فوقها رغبتنا في المزيد منها، وقد نذهب بعد ذلك إلى الأعماق لاستخراج مكنوناتنا الداخلية وما هو مخبوء في داخلها.

هذا الكلام ربّما يعيدني إلى كومة الأوراق التي وجدتها بحوزتي عام 1992م والتي لم أكن أدري لماذا كتبتها أصلاً، ولم أكن أدري أيضاً أنّها ستكون بوابة دخولي إلى عالم الأدب، ولأحصل بعدُ على خمس وعشرين جائزة في مجال الأدب، ويصل نتاجي إلى واحد وأربعين عملاً مطبوعاً مع مطلع هذا العام، إضافة إلى أعمال المسرح والمقالات والقصص المتناثرة في المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية التي لا أعلم كم بلغ عددها حتّى هذه اللحظة؟

أقول ذلك الكلام من أجل الإشارة إلى المصادفة التي جعلت منّي كاتباً، فقد عرفت بعدُ أنّ كومة الأوراق تلك كانت رواية كتبتها عن عائلتنا والفصائل الفلسطينية التي كانت تقيم في منطقتنا والأوضاع السياسية التي كانت سائدة في ذلك الزمن، ولم يكن ينقص تلك الأوراق سوى التقنية الفنية التي تعلمتها بعدُ، وعندما قررت المشاركة في مسابقة، عارضني القاصّ والصديق “محمّد طلب” بشدّة لأنّ لديه بعض التحفّظات عليها، ولكن تحفّظاته مع احترامي وتقديري لها لم تقلّل من عزيمتي وحبّ المغامرة والجرأة التي امتلكها، وكانت النتيجة أن حصلت روايتي التي تحمل عنوان: “بين دمعتين” على المركز الثاني لجائزة الشارقة للرواية العربيّة.

في تلك المنطقة التي كنّا نقيم فوقها، فقدت عائلتنا ثلاثة من أبنائها في عام واحد، وكادت أمّي من شدّة حزنها وبكائها و”نهنهاتها” المستمرّة تصاب بالجنون، وحين جاؤوا بثالث إخوتي بعد أن مات غرقاً في واحد من غدران نهر الرقاد شقّت “زيق” ثوبها، ووسّدته ذراعها، ونامت إلى جانبه حتّى الصباح.

قلت ذات وقت في واحدة من رواياتي: إنّ بلدتنا تمتدّ كلسان طويل يضيق كلما اتّجهنا غرباً، وهي تمتدّ بين حزنيين وواديين، بين ممنوعين وهاويتين، يخاصرها اليرموك جنوباً، يدعها تسترخي قليلاً، ثمّ يعود ليضغط عليها، فتبدو مثل امرأة تعتصر ألماً ولذّة، ومثل سهمٍ معّوج الرأس يمتدّ الرقّاد، ومن خلفه أرض الجولان شمالاً يطعنها برأسه،  ليلتقي مع اليرموك غرباً وليشكلا مجرًى واحداً، ساعتئذٍ تبدو أكثر ألماً وأكثر فجوراً، تبدو امرأة لا ترتوي من اللذّة ولا تشبع، أو ربّما تستعيض بقليل منها لتنسى آلامها، لكنّها بالتأكيد قد شعرت بالنشوة، وأحبتها، وإلّا فلماذا فتحت نفسها لكلّ القادمين من ضباط وعسكر ورجال أمن ومخبرين وجباة الماء والكهرباء والبلدية برغم مساحتها الضيقة وأعدادها القليلة؟

أوردت هذا المثال لا لأقول: إنّ بلدتي ليست جميلة، بل هي كذلك لأنّ المياه تحيط بها من ثلاث جهات، ولكنّها أصيبت بلعنة الحدود، وهذا يعني أنّ ساكنها متّهم بالخيانة والعمالة دائماً، الأمر الذي  كان يجعلني متوتّراً ولا يبارحني القلق، ولأجل تلك اللعنة أيضاً، وجدتني أكتب عن الذين حذفت المتفجّرات أطرافهم، ووجدتني أحزن مع أهلها، وأتماهى مع غناء الحصّادين وكذلك الذين يفلحون أرضهم، وأطرب لنايات الرعيان وأجراس الماشية وعيون الماء المتدفّقة، لكنّني على كلّ حال أكاد أجزم أنّني كتبت ومن دون أن أدري؛ لأردَّ على بكاء أمّي وصمت أبي، وأحاول أن أقوم بفعل ضدّي لمواجهة القهر والفقر والاضطهاد، وكنت أريد أن أصرخ أمام الناس جميعاً في هذا الكون الوسيع بأنّنا بشر، ونستحق أن نعيش كما يعيشون، وقد أجد في هذه الكلمات إجابة غير شافية لمن يسألونني: لماذا كتبت؟

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى