كيري ولافروف وصياغة الحلول لأزمات المنطقة
هشاشة الانفراجات في ملفات الأزمات في ساحات الصراع العربية لا تعني بالضرورة أنها انفراجات عابرة. هذه الهشاشة يجب أن تستدعي المزيد من التصميم المحلي والإقليمي والدولي كي تتحوّل الفرص المتاحة إلى سياسات حازمة في طريق الحلول الجدية. فبعض ما يجري في ملفات ليبيا واليمن وسورية، بالذات على أيدي الديبلوماسية الدولية، يعد ببريق أمل ويستحق جدية الاستثمار بدلاً من عبثية الاستخفاف. المسؤولية تقع على أكتاف وزيري الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف بالدرجة الأولى، لأن الرجلين صوّرا نفسيهما فريق الإنقاذ والتفاهمات وربما الصفقة الكبرى. هذا لا يعفي الآخرين من المسؤولية ولا يبرّئهم من المحاسبة على ما وصلت إليه الأوضاع في الدول الثلاث وما قد تصل إليه في العراق ولبنان أيضاً. والكلام يطاول القيادات العربية والإيرانية والتركية والأوروبية باختلاف مستويات المساهمة في كوارث المنطقة العربية. صحيح أن كلاً من الرئيس الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين صنع القرارات التي نفذها كيري ولافروف، لكن التاريخ سيذكر الثنائي الديبلوماسي بقدر الثنائي الرئاسي كشاهدين على تدمير سورية وتهجير أهلها وتيتيم أطفالها، وكراعيين لسياسة إيرانية ساهمت في تعطيل مسيرة دول عربية إلى حياة طبيعية. في وسعهما إعادة صوغ التركة التي سيسجلها لهما التاريخ إذا عقدا العزم على الاستثمار في الانفراجات بصدق كي لا يقال إنها كانت مجرد مناورة. ليبيا ليست إنتاجاً أميركياً أو روسياً بقدر ما كان تفكيكها صناعة أوروبية، لكن الرعاية الأميركية- الروسية للتفاهمات في شأن ليبيا تبقى فائقة الأهمية. اليمن ليس فعلاً أميركياً- روسياً، لكن المساهمة الأميركية والروسية في تحويل اليمن من ساحة حرب مدمرة إلى مكان للتفاهم الإقليمي، مساهمة حاسمة في مصير اليمن والعلاقات الإقليمية. سورية تبقى في طليعة الاعتبارات التي ستسجّل لكل من كيري ولافروف مكانهما في ذاكرة التاريخ. لذلك، أمام الرجلين فرصة مميّزة لن تدوم طويلاً لإحداث تغيير جذري في مسيرتهما الديبلوماسية في الشرق الأوسط لعل التاريخ يتناسى بصماتهما على المآسي ويذكر لهما كيف استدركا وعكفا على صنع الحلول بعيداً من النرجسية.
هذان الرجلان القديران يتصرفان طبقاً للمصالح الوطنية والقومية لكل من بلديهما بالتأكيد، وهذه وظيفة كل منهما كوزير للخارجية، إنما مساهمتهما في المسيرة الديبلوماسية للبلدين وانعكاساتها على منطقة الشرق الأوسط بصورة خاصة، طُبِعَت بشخصيتيهما وبعلاقاتهما الشخصية. ولذلك، إن التركيز على هذا الثنائي المهم في تاريخ الشرق الأوسط ليس اعتباطياً ولا هو عابراً. ولاء كل منهما لرئيسه واضح. بل إن جون كيري بدا مصدوماً عندما وقف في طليعة الأوركسترا وهو ينذر بالعواقب على الرئيس السوري بشار الأسد تنفيذاً لذلك «الخط الأحمر» الذي توعد به رئيسه. لكنه أسرع إلى التأقلم مع التراجع عن إنذار الخط الأحمر فيما توقع الكثيرون منه الاستقالة بعدما أفرط في دق طبول الإنذار.
كيري كان صادقاً في سعيه وراء إحداث اختراق في ملف الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني وقام بعشرات الجولات والزيارات آملاً بتحقيق إنجاز. إنما الواقع السياسي أجبره على الاعتراف بفشل مساعيه، فوضع ذلك الملف جانباً واتجه مع صديقه سيرغي لافروف إلى الملفين الإيراني والسوري. وهناك بدأت رحلتهما معاً. هناك، بالذات، في مفترق الهبوط من إنذار الخط الأحمر، حيث وجدا الصيغة الذهبية التي ترضي إسرائيل وترضيهما معاً- صيغة تجريد سورية من ترسانة السلاح الكيماوي مقابل عدم قيام الولايات المتحدة بعمليات عسكرية تطيح نظام بشار الأسد.
سيرغي لافروف نفّذ بصدق سياسة الكرملين التي نصبت سورية كموقع قدم لاستعادة النفوذ الروسي عالمياً وليس فقط في الشرق الأوسط، وكذلك لإحياء القومية الروسية لحشد الدعم الشعبي وراء كبرياء السياسة الروسية. مسح سيرغي لافروف ابتسامته التقليدية أثناء خدمته سفيراً لبلاده في الأمم المتحدة واستبدلها بتجهم الوجه وصوت جهوري لإيصال سياسة الحزم القاطع ورفض الليونة. ففي باله كانت أوكرانيا وغضب الكرملين من عقوبات حلف شمال الأطلسي ضد روسيا، وفي ذاكرته كانت ليبيا و «خدعة» الأطلسي لروسيا في مجلس الأمن الدولي، وفي عمقه كان القلق الحقيقي من دعم الغرب لصعود الإسلاميين إلى السلطة بالذات في مصر، وشكوك الكرملين في غايات دعم الغرب لـ «الربيع العربي». مزيج وجد فيه الكرملين سُمّاً قاتلاً، ووجد له لافروف دواء عبر علاقة حميمية مميّزة لبناء الثقة مع نظيره الأميركي.
حنكة وقدرة الرجلين مكّنتهما أن يزعما صنع التاريخ عبر قلب صفحة العداء الأميركي مع إيران والتوصل إلى الاتفاق النووي معها. روسيا كانت البوابة الرئيسية للمرور الأميركي إلى إيران، وفي هذا الملف بالذات قدّم لافروف إلى كيري ما عقد باراك أوباما العزم على إتمامه، وهو تطبيع العلاقات الأميركية- الإيرانية.
أدرك الرجلان، منذ البداية، أن التركيز القاطع على الملف النووي ورفض البحث في الطموحات الإيرانية الإقليمية كان عبارة عن تأشيرة لاستمرار التدخلات الإيرانية في الدول العربية. الفارق هو أن لافروف فعل ذلك عمداً، طبقاً لسياسة الكرملين والعلاقة الروسية- الإيرانية التحالفية في سورية، فيما جون كيري طبّق سياسة البيت الأبيض التنكرية المتأبطة التنصّل وغض النظر عمداً.
النتيجة واحدة، وهي: مباركة أميركية- روسية للنفوذ الإيراني المتأصّل في العراق وللسيطرة الإيرانية على العملية السياسية اللبنانية عبر «حزب الله» ورفضه السماح بانتخاب رئيس للجمهورية وللتدخل الإيراني عبر الحوثيين في اليمن وللمشاركة العسكرية لإيران في الحرب السورية.
منذ بضعة أسابيع برزت مؤشرات إلى استعدادات على رأسها اليمن وسورية، قد تكون نتيجة قرارات روسية بامتياز وقد تكون نتيجة سياسات ساهم في صياغتها وزيرا الخارجية الروسي والأميركي.
في اليمن، حيث للعلاقات الروسية- السعودية والأميركية- السعودية أبعاد تتعدى العلاقات الثنائية، يبدو أن موسكو وواشنطن تدفعان بجدية نحو الحلول الجذرية. المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ يستعد لعقد جولة مهمة من المفاوضات بين الأطراف اليمنية في الكويت في 18 الشهر الجاري، والعلاقة بين السعودية والحوثيين تأخذ منحى قد يكون مبشِّراً بالخير إذا تم تنفيذ التعهدات. فإذا تم إحراز التقدم على المحاور الخمسة للمباحثات في الكويت، قد يكون اليمن في طريقه إلى الخروج من الحرب.
فسحة الانفراج في سورية قابلة لتحقيق اختراق كبير إذا ثبت أن الديبلوماسية الروسية لا تناور وإنما هي عازمة على حل سياسي جدّي لا يتوقف عند وقف النزيف، فالحل السياسي تقوده روسيا بإقرار أميركي وباستعداد لترك القيادة في الأيدي الروسية. إنما هذا لا يعني الانبطاح الأميركي التام أمام ما تصمّمه موسكو لسورية إذا كان مستقبل بشار الأسد هو الذي يقرر مستقبل سورية.
الانفراج حدث في عدة جبهات وشمل انخفاض وتيرة العمليات العسكرية، وفك الحصار لإيصال المساعدات الإنسانية إلى بعض الأماكن المحاصرة، والبحث في مصير الأسد بتمييز عن التوافق على استمرار النظام. المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا تمكَّن، بمساعدة روسية وأميركية، من إنقاذ العملية السياسية من الانهيار. وهو عازم على المضي بمهامه بأبعد من مجرد وقف النزيف كي يكون في الإمكان التوصل إلى حلول سياسية. إن عزيمته تبقى رهينة القرارات الروسية والأميركية والمساعدة الجدية الآتية إليه من وزيري الخارجية!
ليبيا تبدو مرشحة لانفراج على رغم هشاشته. الاتحاد الأوروبي رحب بما اعتبره «فرصة وحيدة للاتحاد والمصالحة» بعد وصول رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج إلى طرابلس مدعوماً من الأمم المتحدة. وصول السراج برفقة عدد من أعضاء المجلس الرئاسي الليبي عبر القاعدة البحرية الرئيسية في العاصمة، تطور مهم قد يكون ركيزة في «الانتقال الديموقراطي في ليبيا والمسيرة نحو السلام والأمن والازدهار» كما قال المبعوث الأممي مارتن كوبلر.
الموافقة الروسية على إجراءات حلف شمال الأطلسي في ليبيا تطور فائق الأهمية، علماً أن ليبيا كانت عنوان «الغدر» الغربي في قاموس موسكو. بسبب أهمية الموقف الروسي هذا، ونظراً إلى أن الولايات المتحدة لا تتحمل القدر نفسه من المسؤولية إزاء مأساة ليبيا كما الدول الأوروبية، فإن أي استثمار لجون كيري وسيرغي لافروف في دفع ليبيا إلى التعافي سيكون محرّكاً مهماً لحشد الأوروبيين وراء سياسة حكيمة لإنقاذ ليبيا.
ليس هناك من سبب للثقة بأن الانفراجات الهشة ستؤدي إلى نقلة نوعية وصفقة كبرى تنقل منطقة الشرق الأوسط خارج جحيمها، إنما ليس من الحكمة سكب المياه الباردة على هذه الانفراجات بسبب انعدام الثقة بالغايات والتصاميم الأميركية والروسية للمنطقة.
لعل من السذاجة بناء التوقعات على رجلين باتا شريكين في صياغة ما آلت إليه منطقة الشرق الأوسط. إنما لعل من الواقعية السياسية أن يفكر هذان الرجلان في كيف سيذكرهما التاريخ، ويبادرا إلى الاستدراك وإلى حياكة تركة لا تتوقف عن الدموية.
صحيفة الحياة اللندنية