كيفما كنتم “يدعش” عليكم

كلما ضرب الإرهاب جماعة من الأبرياء والآمنين، صاح الأفاقون: “هذا لا يمتّ للدين أو التديّن بصلة”.. كم هي مستفزة وداعرة هذه العبارة التي يتشدّق بها أولئك الذين يمسكون بمنتصف العصا، فيهشّون بها على القطعان حينا وعلى الذئاب أحيانا أخرى.

إنهم دعاة الوسطية السمجة، والتي لا يقبل بها إلاّ الجبناء والمترددون والطماعون وضعاف النفوس، من أولئك الذين ترى أيديهم مغمسة في “وسخ الدنيا”، وعيونهم شاخصة على نعيم الآخرة.. إنهم من فصيلة الساعين وراء شرف المعارضة وامتياز السلطة.. أولئك الذين قال عنهم المسيح نفسه: ” لست ساخنا ولا باردا.. أنت فاتر..إني أتقيؤك”.

التدين ـ ومهما كانت العقيدة التي يعتنقها أصحابه ـ هو بالضرورة فعل إلغاء للآخر، وإعلان صريح أو مبطّن بأحقية وشرعية و”واحدية” ما ذهبوا إليه، لكن هذا الأمر لا يمنع الحق ـ طبعا ـ في حرية العقيدة حتى وإن كانت تدعو إلى ” اللاعقيدة”، شرط أن لا تفرض على الآخر وتهدد حريته الشخصية.

إنها معادلة في منتهى البساطة والوضوح، بل بداهة تدرك بالسليقة والفطرة لدى كل من ولدتهم أمهاتهم أحرارا، ولا تحتاج إلى تنظير وجلسات وندوات، فهي مثل من يتعلم الأكل والشرب والنوم والتنفس.. ولكن مع من؟

يبدو هذا الكلام طوباويا أكثر مما يجب في مجتمعات تنخرها الأمية وتحركها الخطابات التأجيجية والتحريضية، والتي تجد في حياة الفقر والخصاصة مرتعا خصبا لها، لكن ثقافة العقل والعمل كفيلة بلجم وحش التطرف والإرهاب مهما ساءت الظروف المعيشية، والتي يحلو لبعضهم أن يجعلها شماعة سببا لكل بلاء، فيريح بذلك رأسه الصغيرة من هموم البحث والتحليل.. و”كفى المنظرين شر التفكير”.

لا أيها السادة، ومع احترامنا للنظرية المادية الجدلية ، فإن أسباب التطرف والإرهاب، هو السعي لإلغاء الآخر حسب التربية الدينية التي تلقن في البيوت وتدرّس في المدارس، ويحرض عليها في دور العبادة، فتمسي ثقافة حية، تعشش في الرؤوس، وتمشي على قدميها في الأسواق، وتصطاد كل من يخالفها لتستبيح دمه وفق نصوص سماوية ووضعية، لم تستطع النخب الجبانة والانتهازية إيقافها أو الدعوة لإعادة النظر فيها، وقد منعها من ذلك تواطؤ واضح بين الحاكم والمحكوم، بين المعلم والتلميذ، وبين الإمام وجمهور المتعبدين.

الذي أخرج رموز محاكم التفتيش من أوكارهم ليستبيحوا أعراض الناس هو صمتكم أيها السادة المنددون من خلف حجاب، والمتمترسون خلف الشاشات، والمدخنون في المراحيض والصائمون مع الصائمين وأنتم مفطرون.

حين يمسي التدين أمرا شخصيا، شأنه شأن معرفة راتبك الشهري أو لون ملابسك الداخلية، ساعتها يحق لنا التكلم عن مجتمع مدني، ويحق للجمعيات الحقوقية أن تندد بمن يمنع التدين.

جريمة قتل الراعي منذ أيام في تونس مثلا، وعلى أيدي الجماعات الإرهابية، نفذها شخص واحد أو نفر قليل على أقصى تقدير ثم اختفوا في الجبال، لكن الذي صنعها ومازال يصنعها كل يوم هو مئات الآلاف من الجهلة والجبناء والأنذال والسوقة والرعاع وصائدي المفطرين ومدعي حماة الحمى والدين.. وغيرهم ممن يحتلون المنابر والوزارات والمساجد والخمارات ويصطفون أمام بائعي الزلابية ومغني الراب وأئمة التضليل، والمعالجين بالبول والبصاق واستحضار الجن، وحتى الذين يتمترسون خلف الانترنت ومتابعي المسلسلات.. والساعين للثروة عبر رسائل ال اس. ام . اس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى