كيف أعطى بوتين أمريكا كورسًا مكثفًا في فنون الحروب؟!
على قيادات وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) أن تُدوِّن الملاحظات المُستفادَة من الدرس الروسي الذي يعطيه بوتين. بهذه الكلمات ينصح بريان كلارك، الباحث المخضرم والمتخصص في شؤون الدفاع في معهد هدسون للدراسات الأمنية، وزميله في المعهد، دان بات، بأن يستخلصوا الدروس المستفادة من الطريقة التي تتعامل بها روسيا مع الصراع الأوكراني وكيف وضعت خيارات متعددة بشأن الحرب المحتملة، وذلك في مقالهما المنشور في مجلة «ديفنس وان» التي تهتم بشؤون السياسة والأعمال والتكنولوجيا الخاصة بالدفاع.
خيارات روسية متعددة!
استهل الكاتبان مقالهما بالقول: ربما تعود أمريكا، لكن خصومها الجيوسياسيين لن يفرشوا لها بساط الترحيب، وخلال العام الماضي، ظلت الطائرات الحربية الصينية تنشر الكآبة في سماء تايوان بصورة منتظمة، واستأنفت كوريا الشمالية تجارب الصواريخ الباليستية والصواريخ ذات السرعة الفائقة، وكثَّفت إيران من هجمات الطائرات من دون طيار في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط، ويبدو جليًّا أن النهج الذي خطط له مسؤولو البنتاجون تحت مسمى «الردع المتكامل» لإستراتيجيتهم الدفاعية المستقبلية لم يفلح مع الفئات المستهدفة ولم يجد آذانًا صاغية.
وعلى الرغم من أنه لا يُمكن تجاهل استفزازات بكين وطهران وبيونج يانج، يظل الجيش الروسي، الذي يُعسكر على الحدود الأوكرانية ويُهدد بغزو البلاد، هو التحدي الأكثر إلحاحًا الذي يُواجه قادة الولايات المتحدة حاليًا، ومن الواضح أن تأثير العقوبات الاقتصادية التي وعدت بها إدارة بايدن والتجهيزات العسكرية ضئيلٌ جدًّا، وأن حلفاء حلف الناتو مترددون في دعم ردود أكثر عدوانية مثل عزل روسيا تمامًا عن المنظومة المالية العالمية، الذي قد يدفع موسكو إلى اتخاذ قرار بقطع إمدادات الغاز الطبيعي عن أوروبا في فصل الشتاء.
ويُؤكد الكاتبان ضرورة أن يتعلم فريق السياسات التابع لوزارة الدفاع الأمريكية من نموذج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بدلًا من أن يكتفوا بفرك أيديهم (دليلًا على القلق والغضب) لإظهار مخاوفهم من العدوان الروسي، وقد وضعت الحكومة الروسية مجموعة من الخيارات التي يصعب على قادة الولايات المتحدة وحلفائها التصدي لها، من خلال حشد التهديدات في ميادين عديدة، بداية من غارات يشنُّها المرتزقة ومرورًا بالهجمات الإلكترونية ووصولًا إلى المعارك البرية المسلَّحة.
وتمتد أذرع موسكو – وفقًا لتحليل الكاتبين- إلى ما هو أبعد من حدود أوكرانيا، وذلك بفضل عقود من العمليات الاستطلاعية التي نفَّذتها تحت سطح البحر والتي يُمكن أن تُؤدي بالفعل إلى تعطيل الاتصالات عبر المحيط الأطلسي، بالإضافة إلى برنامجها الفضائي القائم منذ زمن طويل الذي دمَّر الشهر الماضي فقط قمرًا صناعيًّا روسيًّا غير نشطٍ.
الخيارات غير المتماثلة تشتت جهود الخصوم!
يوضح الكاتبان أنه يُمكن النظر إلى جهود نظام بوتين لإعادة أوكرانيا إلى الحظيرة الروسية على أنها دراسة حالة متميزة لما نُسميه «الحرب التي ترتكز على اتخاذ القرار»، ومن خلال توفير مزيد من الخيارات للعدوان الروسي مقارنة بالخيارات المتاحة لأوكرانيا والموالين لها، يفرض الكرملين مجموعة من المُعضلات في وجه خصومه، وعلى سبيل المثال، إذا أدَّى الدعم العسكري الغربي إلى جعل التوغل الروسي في منطقة دونباس الأوكرانية مشحونًا بالمخاطر، فإن روسيا يُمكنها أن تُنفِّذ مع حليفها البيلاروسي هجمات مميتة على العاصمة الأوكرانية كييف.
يضيف الكاتبان: وإذا عزلت الحكومات الأمريكية والأوروبية روسيا عن المنظومة المالية العالمية في أعقاب غزوها المحتمل لشرق أوكرانيا أو جنوبها، يُمكن لموسكو أن تقطع الاتصالات تحت سطح البحر التي تنقل تريليونات من التعاملات الغربية يوميًّا. أو، إذا حاول المفاوضون من الولايات المتحدة وحلفاؤها إطالة أمد المفاوضات لحرمان روسيا من ذريعة الحرب، فإن موسكو قادرة على تمكين قواتها شبه العسكرية ووكلائها من استئناف شن الهجمات في المنطقة الرمادية.
وعلى النقيض من الأساليب التي تستخدمها القوات الأمريكية في العراق والتي تعتمد اعتمادًا أساسيًّا على تدمير قوات العدو أو تحييدها لتحقيق الفوز، تحاول الحرب التي ترتكز على اتخاذ القرار تحديد مجموعة من الخيارات المتاحة تكون أكبر وأكثر تنوعًا للتعامل مع العدو. ويتسبب التفاوت في الخيارات -وفقًا للكاتبين- إلى تشتيت الخصم جهوده عبر مسارات عمل متعددة أو عن طريق محاولة التنبؤ بالمسار الذي تتبعه قوة اتخاذ القرار، بينما عندما تتصرف قوة اتخاذ القرار، يمكنها أن تنتقي من بين الخيارات التي من المحتمل أن تُكلَّل بالنجاح مع الاحتفاظ بالقدرة على تغيير الخيارات بعد أن يتعهد العدو بالرد.
طرح الخيارات يتطلب انخراطًا مستمرًّا
يُنوِّه الكاتبان إلى أن الميزة الانتقائية التي تحظى بها روسيا فيما يتعلق بالصراع الأوكراني لا تُعد حالة استثنائية لروسيا، ولا يُمكن للحكومات الأمريكية والأوروبية تحقيقها، ويُمكن القول إن لدى الغرب قدرات عسكرية مماثلة أو أفضل ولديه مجموعة من الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية أكثر من التي يمتلكها نظام بوتين، ويكمن الاختلاف في أن الكرملين يبدي استعدادًا لاستخدام جميع الأدوات المتاحة لديه.
واستنادًا إلى تصرفاتهما، قررت روسيا والصين أن المخاطرة بإبداء عزمهما وقوتهما جديرة باستحقاق جَنْي الاستفادة، وفيما يخص الدول الأصغر، يُمكن أن يكون التهديد بالهجوم العسكري أو الاقتصادي كافيًا لإكراهها أو إجبارها قسرًا على شيء ما. وفي المقابل، يجب أن تكون الخيارات للتعامل مع القوى الكبرى، التي يمكن أن تقاوم، ذات مصداقية وقادرة على التطور.
وعلى مدار العقد الماضي، حددت الصين خيارها من خلال بناء الجزر في بحر الصين الجنوبي، ومضايقة عمليات الشحن العسكري والتجاري بمليشياتها البحرية، وشن حرب اقتصادية ضد خصومها، وفعلت روسيا الأمر نفسه مع «رجالها الخضر الصغار (جنود روس مرتزقة بملابس عسكرية لكنهم لا يحملون أي علامات روسية)» في أوروبا الشرقية، والسيطرة على تدفقات الغاز باتجاه الغرب، والحرب السياسية الميسَّرة عن طريق الإنترنت.
ويُشير الكاتبان إلى أن جزءًا من الجيش الأمريكي يحرص بصورة منتظمة مثل الصين وروسيا على وضع الخيارات وتطويرها، لكن هذا النهج لا يُستخدَم على نطاق واسع في جميع فروع الجيش الأمريكي، وفي إطار استراتيجيتها المتمثلة في «الانخراط المستمر»، ترد الجهات المشغِّلة للقيادة الإلكترونية الأمريكية انتقامًا من الهجمات السيبرانية المعادية في الوقت الفعلي وتنفِّذ عمليات استغلال المعلومات وتصعِّد من هجماتها لإثبات عزم الولايات المتحدة وقوتها، ويؤدي التفاعل بين الولايات المتحدة وبين الخصوم إلى تمكين القيادة الإلكترونية من تحسين مسارات عملها المستقبلية.
وفي ختام مقالهما، يلفت الكاتبان إلى أنه بينما يضع قادة البنتاجون اللمسات الأخيرة على استراتيجيتهم الدفاعية الجديدة وتنفيذ مفهوم «القتال الحربي المشترك»، ينبغي لهم الاسترشاد بالكتب الروسية والصينية الخاصة بقواعد اللعبة، ويُرجح أن يفشل «الردع المتكامل» إذا لم تتوفَّر لقادة الولايات المتحدة وحلفائها مجموعة متميزة من الخيارات ذات المصداقية التي تُشكل مأزقًا للخصوم، وهو ما يتطلب انخراطًا مستمرًّا وإثباتًا للقوة والعزيمة، وصحيحٌ أن هذا النهج ينطوي على بعض المخاطر، لكن هذا هو ثمن القبول بالدخول في معترك منافسة القوى العظمى.