كيف “اجتاحَ” بوتين الخليج على أنقاضِ الغباء الأمريكيّ؟ وهل يُعيد الأتراك إلى دِمشق مِثلما أعادَ الأكراد على أرضيّة مُعاهدة “أضَنة”؟

 

يعيش الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين أفضَل أيّامه في مِنطقة الشرق الأوسط، ويحصِد ثِمار فشَل السّياسات الأمريكيّة الوَفيرة فيها، والفَضل في ذلك يعود بالدّرجة الأولى إلى ثلاثة عوامل رئيسيّة، أوّلها دهاؤه الاستراتيجيّ بعيد النّظر، وبُرود أعصابه وسياسة النّفس الطّويل التي يتّبعها، وثانيها تحالفاته الذكيّة والمَدروسة بعنايةٍ في المِنطقة، وخاصّةً مع سورية وإيران وتركيا، وثالثها الغَباء الأمريكيّ، وحالة الفوضى السياسيّة التي تَسود واشنطن حاليًّا نتيجة الخِلافات المُتفاقمة بين البيت الأبيض والكونغرس.

الرئيس دونالد ترامب كانَ الهَديّة الإلهيّة الأعظَم للرئيس بوتين، وروسيا عُمومًا، فهذا الرّجل بجشعه، ولغة الصّفقات التي لا يُتقن غيرها، لم يُحقّق أيّ إنجاز على مدى السّنوات الثّلاث الأُولى من حُكمه، وكُل سياساته، بما فيها المُبالغة في فرض العُقوبات الاقتصاديّة، أعطَت نتائج عكسيّة، وانعكَسَت سَلبًا على المصالح الأمريكيّة في المِنطقة، وهزّت الثّقة بالصّورة الأمريكيّة ومِصداقيّتها، وأنهكت حُلفاء أمريكا، الأمر الذي يُرجّح النّظريّة التآمريّة التي تقول بتدخّل روسيا في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة لمَصلحة فوزه حتى لو غابت الأدلّة.

الرئيس بوتين يزور الرياض وأبو ظبي، أبرز شريكين لأمريكا، وأكبر مُستوردين لأسلحتها، وتعِبَت يده من توقيع الصّفقات التجاريّة، والعسكريّة، والنفطيّة، من كَثرَة عُقودها، ويَفرُك يديه فرحًا، ويَشكُر حليفه الإيرانيّ في سرّه الذي لعب، وأذرعته العسكريّة الحليفة في اليمن والعِراق ولبنان دَورًا كبيرًا في هذا التّحوّل الاستراتيجيّ الكبير، وأقدم، أيّ الحليف الإيراني، على خطواتٍ صبّت في نهاية المَطاف في تمهيدِ الطّريق لتحقيق هذا الاجتياح الروسي.

ثلاثة انتصارات كبيرة حقّقتها إيران وحُلفاؤها تَكمُن خلف هذا الاجتياح العسكريّ والسياسيّ الروسيّ التّدريجيّ والمُتسارع وبالانسِحاب الأمريكيّ بالتّالي من مِنطقة الشرق الأوسط:

الأوّل: نجاح صواريخها الباليستيّة والكروز المُجنّحة والطّائرات المُسيّرة التي زوّدت بها حُلفاءها الحوثيين في اليمن، في تقويض “الهيبة” العَسكريّة والأمنيّة الأمريكيّة وربّما تُغيّر المُعادلات الحاليّة ولو جُزئيًّا في مِنطقة الخليج، وهي الصّواريخ والمُسيّرات التي اخترقت المَنظومات الدفاعيّة السعوديّة الأمريكيّة الصُّنع بكفاءةٍ عاليةٍ، وأحدَثت شلَلًا، ولو مُؤقّتًا، في إمدادات النّفط السعوديّة للعالم، الأمر الذي صَبَّ في مصلحة الصّناعات العسكريّة الروسيّة، وزادَ من الإنتاج النفطيّ الروسيّ الذي عوّض الغِياب السعوديّ، وجعل دول الخليج تسعى للأسلحة الروسيّة كبديلٍ عن الأمريكيّة.

الثاني: التدخّل العسكريّ الإيرانيّ في سورية، سواء بشكلٍ مُباشرٍ عبر قوّات إيرانيّة وأُخرى تابعة لـ”حزب الله” والسّلاح الإيراني، أو غير مُباشر، من خِلال فصائل وميليشيات، فهذا التّواجد لَعِب دَورًا كبيرًا في صُمود الدولة السوريّة حتى قبل التدخّل العسكريّ الروسي المُباشر، وتكامل معه وعزّزه لاحقًا، ممّا أدّى في نهاية المَطاف إلى هزيمة المشروع الأمريكيّ.

الثالث: صُمود إيران في وجه العُقوبات الاقتصاديّة الأمريكيّة وتحدّيها، ورفض الرّكوع أمامها، والتّسليم بشُروطها المُجحفة، بَل ومُقاومتها من خِلال تكثيف الهجَمات على مصالح أمريكا وحُلفائها وناقِلاتهم في الخليج، وربّما قريبًا في البحر الأحمر، وكسْر الحِصار من خلال استئناف التّصدير للنّفط بمُعدّلاتٍ وصلت إلى مِليون برميل يَوميًّا حتّى الآن، ووضع خُطط تنمية وسِياسات اقتصاديّة لتَقليص الاعتِماد على النّفط كمَصدرٍ أساسيٍّ للدّخل.

هذهِ الفُتوحات التي حقّقها الرئيس بوتين في الخليج لن تقتصر على الصّفقات التجاريّة والعسكريّة، بَل ربّما تمتد أيضًا إلى أُخرى سياسيّة تخدِم مصالح حُلفائه في سورية التي بات يملك اليَد العُليا في تسريع تعافيها، وعمليّة الإعمار فيها، ولن نستبعد أن يدفع باتّجاه استعادة دورها القيادي في الجامعة العربيّة، وليس مِقعدها فقط، وفتح قنوات التّطبيع بين حليفه الإيرانيّ وهذهِ الدول أيضًا، وهُناك مُؤشّرات تُؤكّد أنّ السعوديّة ستسير قريبًا على خُطى الإمارات، وتُرسِل الوفود إلى طِهران لإنهاء كُل القضايا الخِلافيّة وبِما يُؤدّي إلى إنهاء الحرب في اليمن، ولعلّ زيارة عمران خان، رئيس الوزراء الباكستانيّ للرياض اليوم أحدث المُؤشّرات.

من كان يتوقّع أن يُؤدّي الاعتراف الأمريكيّ بالهزيمة في شمال سورية إلى عودة الأكراد بوساطةٍ روسيّةٍ إلى الدولة السوريّة الأُم ويتعهّدون بالتخلّي، ولو مُؤقّتًا، عن كُل طُموحاتهم الانفصاليّة، ويفتحون كُل أراضيهم وقواعدهم العسكريّة للجيش العربي السوري، ويتعهّدون بتسليم أسلحتهم الأمريكيّة للجيش السوري، وحل إدارتهم الذاتيّة؟

اليوم عاد الأكراد إلى دِمشق، ولا نَستبعِد غدًا أن يُشكّل المشروع الروسي بإحياء مُعاهدة أضنة بين سورية وتركيا (عام 1998) الأرضيّة الأصلَب لعودة العلاقات بين البَلدين إلى صُورتها السّابقة، وبِما يُؤدّي إلى عودة السّيادة السوريّة إلى إدلب وشرق الفُرات كاملةً؟

إنّه الدّهاء الروسيّ الذي يُعيد تركيب مِنطقة الشرق الأوسط على أُسسٍ جديدةٍ ليس للأمريكان أيّ وجود فيها، ولا نقول هذا من قبيل التمنّيات، وإنّما استِنادًا للوقائع على الأرض.. والأيّام بيننا.

 

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى