كيف السبيل إلى الحوار العائلي

 

انقطعت خدمة الانترنت عن بيتنا ليلة أمس، مما جعلني أضطر لتمضية الوقت عبر تجاذب أطراف الحديث مع أفراد أسرتي فاكتشفت، فعلا، كم هم ظرفاء وودودون”. هذه العبارة القاتمة المفزعة، كتبها أحد المراهقين على صفحته في الفيسبوك، وتبادلها كثيرون على سبيل السخرية السوداء، والضحك الأبله أحيانا، عمّا آلت إليه حال مؤسسة العائلة في ظل هذا ” التواصل الاجتماعي ” الذي جعل كل فرد يسكن جزيرة بحجم راحة اليد، اسمها الايفون.

صار أفراد كل أسرة “يتبادلون عبارات الصمت ”  فلا تكاد تسمع إلا ” همس الأصابع ” على شاشات الأجهزة، تقطعها أحيانا ضحكة أو تنهيدة أو تكشيرة من أحدهم. يرن جرس باب المنزل فيتقاعس ويعوّل كل واحد على الآخر في الفتح. قد تحترق الطبخة في فرن الغاز دون الانتباه إليها أو تتمسح بك قطة البيت دون أن تعيرها أي اهتمام بل وقد يقتحم بيتك اللصوص في وضح النهار دون أن تكترث.. المهم أن لا يأخذوا الموبايل من بين يديك.

صرنا لا نعبأ بموعد أي مناسبة إن لم يذكّرنا بها الجهاز، وبات الزوج يتبادل عبارات التهنئة مع قرينته في ذكرى زواجهما عبر الانترنت وهما على فراش واحد.

ما فائدة عبارات مثل ” شكرا” أو ” عفوا ” أو “مبروك ” أو ” أرجوك” دون صوت أو ابتسامة أو عناق أو رائحة؟

لماذا لا تعلن كل أسرة صالون البيت ” منطقة منزوعة الموبايل “، وبذلك يتمكن كل أفراد العائلة من التعرف إلى بعضهم بعضا، و ” اكتشاف ميزات كل واحد فيها” كما كتب ذلك المراهق على صفحته في الفيسبوك.

لماذا تُثار قضايا الاغتراب والتفكك الأسري بسبب طغيان الانترنت، في العالم العربي دون غيره من البلدان المتقدمة في ثورة الاتصالات الرقمية؟ هل أن الأمر يشبه وفرة سيارات المرسيدس لدى المسؤولين في العالم الثالث أكثر من ألمانيا، بلد المنشأ والتصنيع؟

هل تعلم الأسر العربية التي تتسابق لاقتناء أحدث الموبايلات لأطفالها أن رئيس شركة مايكروسوفت، بيل غيتس، والذي يعد أغنى رجل في العالم، قد اعترف بعدم سماحه لأبنائه بامتلاك هواتف محمولة قبل بلوغهم لسن الـ14

وقال إمبراطور الانترنت، خلال حوار له مع صحيفة بريطانية، إنه منع أطفاله من امتلاك الهواتف المحمولة قبل سن الـ14، وأنه مع امتلاكهم لها بعد هذا فرض عليهم مساحة محددة من الوقت يمكنهم خلالها فقط استخدام الهواتف الذكية، وغالباً ما تكون هذه المساحة من الوقت قبل ذهابهم للنوم. وذكر رئيس مايكروسوفت، أنه يمنع وجود أي من الأجهزة الذكية في عدد من الأماكن مثل مائدة الطعام وغرفة النوم.

نحن معشر العرب الذين غالبا ما يتباهون ب ” دفء الروابط الأسرية ” لديهم، مقارنة بالمجتمعات الغربية ” المتفككة ” في نظرهم، لا ندرك أننا في وضع كارثي من جراء هذا ” التسونامي الالكتروني” الذي نواجهه ببنى اجتماعية هشة وغير محصنة.

علينا الاعتراف أننا في مهب ثورة الاتصالات دون أن نعد لها شيئا على مستوى الفرد والأسرة، ووقعنا في محنة الإدمان على الانترنت مثلما وقعت مجتمعاتنا في مشكلة الإدمان على التدخين الذي تأتي منتجاته من أكثر البلدان تشددا ومنعا واستهلاكا له وهو الولايات المتحدة الأميركية.

المشكلة أننا في العالم العربي، نتشبث بكل ما هو سلبي ومسيء ومدمر في أي منجز علمي وتكنولوجي، ونتعامل مع الأمر تحت يافطة الانفتاح ومواكبة العصر كما هو الحال بالنسبة للانترنت. المشكلة إذن تكمن في شيء آخر وهو انعدام التواصل الأسري وغياب الحوار بين أفراد العائلة.

أثناء هذا الخواء النفسي، يأتي جهاز الايفون لملء الفراغات، ذلك أن ثقافة التأمل و ” الاختلاء مع الذات ” ليست من تقاليدنا ولا من عاداتنا فوجب البحث دائما عن ” مسامر” و ” مسليا ” ولو كان افتراضيا.

لو نتذكر الماضي القريب نسبيا، والذي كان الناس مع ضيوفهم يجتمعون فيه على جهاز التلفزيون هربا من لحظة صمت قد تداهمهم أي أن التلفزيون يمثل مُنقذا لهم من حالة لا وجود فيها للكلام.. ونحن جماعة وجدت لتعشق الكلام.. أي كلام، وإن كان ثرثرة أو نميمة.

جاءت مواقع التواصل الاجتماعي لتعوض صمتا ما قد يحل بأفراد الأسرة وهم في صالون البيت، تماما كما كان يفعل جهاز التلفزيون في ثمانينات القرن الماضي.

انعدام الحوار بين أفراد الأسرة مشكلة كبيرة ونعترف بها جميعا، لكن انعدام الرغبة في الصمت والتأمل مشكلة أكبر.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى