كيف تعامل مسلسل «عمر» مع التاريخ؟ (خالد الدخيل)
خالد الدخيل
يحتل عمر بن الخطاب مساحة واسعة من الذاكرة الإسلامية. لا يتوقف المسلمون عن استعادة قصص وحكايات ارتبطت باسمه عن العدل والحزم والتقوى. واستعادة هذه القصص بإلحاح على مدى قرون من الزمن تعكس أن واقع المسلمين كان ولا يزال يفتقر لما ترمز إليه تلك القصص. تكرر المشهد نفسه، وإن بصيغة مختلفة قبيل عرض مسلسل «عمر» في موسم رمضان وأثناءه. انفجر من جديد الجدل القديم حول جواز تمثيل الصحابة. تجاوز ذلك صفحات الصحف وشاشات التلفزيون إلى المجالس الخاصة. الآن تخيل لو أن عمر بن الخطاب والبقية من أصحاب النبي اطلعوا على هذا الجدل، ماذا سيكون رد فعلهم؟ يفصلنا عنهم أكثر من خمسة عشر قرناً من الزمن. والأرجح أنهم سيصابون بدهشة كبيرة، ولسان حالهم يقول: ما بال هؤلاء القوم منشغلين بأحداثنا عن أحداثهم، وبإشكالاتنا عن إشكالاتهم، وبحاجاتنا عن حاجاتهم، وبخلافاتنا عن خلافاتهم، وبزماننا عن زمانهم؟ قد يرى من يحرّمون تمثيل الصحابة في ذلك مبرراً إضافياً يسند مبرراتهم الواهية. لكنهم مخطئون تماماً.
لن أدخل في جدل جواز تمثيل الصحابة، لأنه جدل عقيم. الأهم من ذلك كيف تعامل المسلسل مع مادته التاريخية؟ قيل إن هذا المسلسل أضخم إنتاج تلفزيوني في تاريخ التلفزيون العربي. وبما أن عمر يجمع في شخصه الصحابيَّ والفقيهَ والخليفة، يصبح المسلسل بحد ذاته حدثاً عن علاقة الدين بالسياسة بشكل عام، وفي مرحلة الخلافة الراشدة بشكل خاص. لكن سيناريو المسلسل لم يلمح لهذه العلاقة، وكيف اتسمت في زمن عمر. والغريب اللافت في هذا المسلسل أن أكثر من ثلثي حلقاته لم تكن عن عمر، وإنما عن ظهور الإسلام، ودولة النبوة، وخلافة أبي بكر. لم يبدأ المسلسل حلقاته عن عمر إلا في منتصف الحلقة الثانية والعشرين، بعد أن لم يتبق لقصة عمر من زمن المسلسل إلا أقل من ثماني حلقات. بهذه الصورة لم يكن أغلب المسلسل عن عمر، وإنما تكراراً للفيلم السينمائي المعروف «الرسالة». هنا يبرز سؤال: لماذا سمي المسلسل «عمر»، وأغلبه ليس عن عمر؟ هل يمكن أن يكون المبرر وراء ذلك دينياً؟ جميع أعضاء اللجنة التي أشرفت على المسلسل من رجال الدين، وهو ما يشير إلى أن الاعتبار الديني كان له تأثير كبير على الطريقة التي أُنتج بها المسلسل. هل شمل ذلك اختيار الأحداث، وترتيب المشاهد وتوزيعها، ولغة الحوار؟ هذه أسئلة لا نعرف إجاباتها بعد. ربما قيل إن الحلقات الـ22 كانت لضرورة الخلفية التاريخية، ورسم الإطار الذي تشكلت وبرزت فيه شخصية عمر عبر مراحلها الثلاث: عندما كان جاهلياً مشركاً، ثم مسلماً دخل الطبقة الأولى من صحابة النبي المقربين، وأخيراً الخليفة الثاني في تاريخ الإسلام. ومع التسليم بأهمية ذلك وضرورته، إلا أنه لا يبرر، لا من الناحية الفنية ولا التاريخية، أن تستغرق الخلفية أكثر من ثلثي حلقات المسلسل. خلفية أي عمل هي بحكم طبيعتها ودورها لا بد أن تكون بالضرورة أقصر من العمل نفسه. والذي حصل في مسلسل «عمر» عكس ذلك تماماً. هل كان المسلسل عن عمر، أم عن الإسلام؟
هل يمكن أن يكون هناك مبرر تاريخي لأن تكون الخلفية التاريخية للمسلسل بهذا الطول؟ والإجابة أن ذلك غير ممكن لأكثر من سبب أولاً أن هذا الطول أوقع المسلسل في تكرار ممل. ثانياً أن عمر كان شخصية مركزية في صدر الإسلام، وشخصية غنية، وبالتالي شخصية درامية. ثالثاً أن اللحظة التي برز فيها عمر بدوره وتأثيره المباشر والخطر على أحداث الإسلام، خصوصاً السياسي منها، كانت لحظة السقيفة بعد وفاة النبي (ص) مباشرة، إذ كانت المكان الذي احتدم فيه أول جدل سياسي حول الحكم في الإسلام بين المهاجرين والأنصار، وكان السؤال المركزي: من هو الأحق بخلافة الرسول في منصبه السياسي؟ وهل هذا من حق المهاجرين، أم من حق الأنصار؟ كان عمر، إلى جانب أبي بكر وأبي عبيدة، طرفاً رئيسياً في ذلك الجدل، وهو الذي حسمه حين بادر إلى مبايعة أبي بكر ليكون أول خليفة في الإسلام، ثم تبعته أغلبية الحاضرين. تأتي بعد ذلك خلافة عمر نفسه التي امتدت لما لا يقل عن إحدى عشرة سنة، وهي فترة طويلة شهدت فتوحات وأحداثاً كبيرة وكثيرة. خلال هذه المدة كانت علاقة عمر، وهو الخليفة، مع عائلته ومع مجتمع المدينة ومع الصحابة وجيوش الفتح وقادة هذه الجيوش، تشكل مصدراً غنياً لأحداث وقصص وحكايات ومشاهد تكشف عن طبيعة مجتمع إسلامي يتبلور، ودولة إسلامية تتشكل، وقيادة سياسية تحاول أن تجعل من نفسها نموذجاً لاستشعار ثقل مسؤولية الحكم، وضرورة الالتزام بحدود العدل. وبما أن هدف المسلسل كان تقديمَ شخصية عمر ودورها الكبير في التاريخ الإسلامي، فلماذا لم يكن سيناريو المسلسل على عكس ما كان عليه؟ أي ألا تستغرق الخلفية التاريخية للمسلسل أكثر من أربع إلى خمس حلقات تبدأ بظهور الإسلام، وتنتهي بوفاة أبي بكر. ثم يبدأ المسلسل بعدها بتناول قصة عمر ابتداء من الحلقة الخامسة، أو السادسة على أكثر تقدير؟ سيظل هذا السؤال يلاحق مسلسل «عمر»، ولن يهتدي أحد إلى إجابة مقنعة له.
الدراما التاريخية، كما يقول كاتب سيناريو المسلسل الدكتور وليد سيف، تنطلق من التاريخ، لكنها ليست سجلاًّ تاريخياً. تنطلق من خصوصية الزمان والمكان للحدث التاريخي، لتتجاوز ذلك إلى الأفق الإنساني وصولاً إلى الحاضر. الدراما التاريخية تخاطب في الحقيقة الحاضر. ترى هل من علاقة بين المشكلة الطائفية التي تعصف بحاضر المسلمين في وقتنا الحاضر، وحدث السقيفة الذي كان تأسيسياً في التاريخ الإسلامي وكان عمر أحد أهم شخصياته؟ ماذا لو أن المسلسل استخدم حادثة السقيفة لإضاءة المنشأ الأول للخلاف السني الشيعي، وأنه كان في أصله وفصله خلافاً سياسياً، وأنه لم تكن له علاقة، لا من قريب أو من بعيد، باختلافات حول مسألة الإيمان والعقيدة؟ يبدو كما لو أن كاتب السيناريو، ومعه المخرج والمنتج غرقوا في ضخامة العمل وكثرة أحداثه وتداخلها، فإلى جانب أن الخلفية التاريخية أخذت من المسلسل أكثر من ثلثي حلقاته، يلاحظ أنه فشل في تحديد اللحظة الفاصلة التي مثلت البداية الحقيقية لبروز شخصية عمر ودوره التاريخي في الإسلام. هل هو إسلام أخته الذي قاده لأن يسلم؟ هل كانت لحظة إسلامه وإشهاره ذلك أمام قريش، أم جاءت مع هجرته للمدينة؟ اللافت أن حدث السقيفة لم يأخذ في المسلسل حيزاً يتناسب مع أهميته وخطورته، كمنعطف طبع تاريخ الإسلام، بما حصل فيه وما لم يحصل. تصور مثلاً لو أن خلافة الرسول ذهبت للأنصار؟ أو ذهبت لعلي بن أبي طالب؟ لو حصل أي من هذين الخيارين لاختلف تاريخ الإسلام عما نعرفه ويعرفه العالم الآن. بعبارة أخرى، تميز مسلسل «عمر» بضخامة الإنتاج، وجمال أعمال الديكور، ومتانة أسلوب الحوار بين شخصياته، وإتقان إخراج المعارك، لكن بقي السيناريو ضعيفاً في رؤيته التاريخية، وفي أحداثه، واكتشاف الحدث المركزي بينها، ثم في علاقة الأحداث بالحاضر الذي يتجه إليه العمل.
* كاتب واكاديمي سعودي
صحيفة الحياة اللندنية