كيف تُحكم إيران فيما متغيراتها لا تلامس الثوابت؟ (أحمد جابر)

 

أحمد جابر


 
تحدّث عبدالعظيم البدران مطولاً في مقدمة كتابه عن تعريف السياسات العامة، ليطل من المفهوم لاحقاً على العنوان الذي اختاره لهذا الكتاب: «كيف تحكم إيران؟ دراسة في صنع السياسات العامة بعد عام 1989»، الصادر عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» – بيروت.
نقرأ بداية، أن موضوع السياسات العامة جديد أكاديمياً، ويعود في بداياته إلى النصف الثاني من القرن العشرين، عبر أعمال عالم الاجتماع الأميركي هارولد دوايت لاسويل. ويذهب أحمد دسوقي محمد، في حديثه عن تاريخية المفهوم ونشأته، إلى عام 1992، تاريخ أول استخدام للمفهوم، عندما ربط تشارلز ماريام، عالم السياسة الأميركي، بين النظريات السياسية وتطبيقاتها، وذلك لفهم نشاط الحكومة الفعلي في الميادين التنفيذية الإجرائية. هذا العلم، المعنون بالسياسات العامة، ذهب الباحثون في تعريفه إلى صياغات شتى، وقد اعترف الجميع بصعوبة تقديم تعريف علمي له، يكون دقيقاً ويحظى بالإجماع، هكذا كانت السياسات العامة لدى جيمس أندرسون، عبارة عن برنامج عمل يوضح الغرض المقصود بالعمل والمحددات المراد تجاوزها في سبيل الوصول إلى الهدف، وقد ذهب «داي» المذهب نفسه تقريباً، ولم يخالفه على سبيل الإجمال خيري عبدالقوي الذي صاغ المحصلة العامة لتعريف السياسات من مادة مضمونها النظري ومن عناصر إجراءاتها العملية، ومن هدفها السياسي النهائي الذي يحقق القبول والرضى الاجتماعيين، ما يعزز ديمومة النظام ويضخ المشروعية في أنساقه السياسية وفلسفته العامة للحكم، تلك المستندة إلى الأيديولوجيا، أو إلى النظرية السياسية الواقعية.
في سياق هذه التعريفات، المختلفة صياغة والمؤتلفة مضموناً، يعاين المؤلف عبدالعظيم البدران، الأوضاع الإيرانية، مع انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، وبعد وفاة الخميني في عام 1989، وما أعقب ذلك من إعادة صياغة لهيكلية السلطة، بالتزامن مع تعديل الدستور، بما يتناسب مع واقع غياب القائد المؤسس، وما نتج عن ذلك الغياب، من كاريزما الشخص، ومن فراغ في المهمات والمسؤوليات التي ما كان ممكناً أن يؤول أمرها إلى غيره.
وفي حديثه عن التجربة الإيرانية، يشير إلى أن مرتكزات السياسات العامة تنطلق من صفة «الإسلامية» التي وضعت قرينة للجمهورية، التي جرى الاستفتاء عليها بعد ثورة عام 1979، وهكذا شكل تلازم اسم الجمهورية مع صفة الإسلامية، ركنين أساسيين للسياسة في إيران، فاختيار الجمهورية بديلاً من النظام الملكي حقق امتيازات شعبية للشعب، في طليعتها حقه، في الانتخاب المباشر لمسؤوليه، أما كلمة الإسلامية فمثلت التعبير الخارجي عن الشريعة والوجه التطبيقي لها، بحيث تتسع الشريعة لتطاول كل جوانب الحياة.
وفي البحث عن المرتكزات المتعددة التي تستند إليها السياسات العامة، يتناول المؤلف بالشرح مرتكزات أساسية عدة، لا يمكن من دون الإحاطة بها، طرق باب موضوع رسم هذه السياسات وسبل تنفيذها وتقويمها وتحليلها في مراحل لاحقة.
يأتي المرتكز الأيديولوجي في الطليعة، وهذا فيه رؤية القائد الخميني مع عدد من آراء مفكري الثورة الأولين، يلي ذلك المرتكز الدستوري، ودور الشعب وموقعه في النظام. وكان ذا دلالة ما تضمنته ديباجة الدستور، تعبيراً عن دعائم المجتمع الإيراني الثقافية والاجتماعية والسياسية، وذلك على أساس القواعد والمعايير الإسلامية التي تجسد أهداف الأمة. هذه المعايير ستظل هادية للمرتكز السياسي ومتحكمة به، في التعبير وفي التنفيذ، وضمن خريطة توزع القوى والنفوذ، في أروقة صناعة السياسات العامة، وفي متابعتها على امتداد مراحلها المختلفة.

ضمن الإسلامية الإيرانية، بل في صلب استقامة شؤونها، تتصدر مسألة ولاية الفقيه التي تشكل الركن الأول من مفهوم المشروعية، ويمثل رضى العامة، الركن الثاني منه. في سياق المشروعية هذه، تكون ولاية الفقيه تعبيراً عن الالتزام الطبيعي بالقيام بالمسؤولية والإشراف عليها، وأداء الخدمات اللازمة في سبيل إصلاح شؤون الناس (الأمة) وأحوالهم، في مختلف المجالات. هكذا، يصير «القائد» في خدمة الناس، ويكون رضى العامة هو المسوغ لولايته. أما الحكومة الإسلامية التي يتم إنشاؤها فتقوم على أساس الخدمة، وليس على أساس الرئاسة أو السلطة أو الاستيلاء، هكذا يضاف إليها بعداً «خدماتياً» أخلاقياً، ويصير جهازها التنفيذي خلوّاً من الفعل القهري والإكراه، بل يبدو أقرب إلى الانصياع لرأي الأمة. عليه، ووفق رؤية الخميني، تصير الدولة إطاراً عاماً لصلاح المسؤول، من خلال رضى «المواطن».
لكن، كيف انعكس كل ذلك في سياق مسائل السياسات العامة؟ وكيف انسابت «الإسلامية والمشروعية» ضمن قنوات النظام ومسالكه؟ وماذا كانت محصلاتها في مواجهة التحديات التي اعترضتها؟ وما هي القوى التي ساهمت فيها وما أوزانها ومصادر قوتها؟
لحظ الدستور المعدل بعد عام 1989 قيام مؤسسات رسمية، أنيط بها رسم السياسات العامة، والقيام بأعبائها، منها مجلس الخبراء، أو مجلس القيادة، وهذا تنبع أهميته من كونه الإطار الذي يعين قائد الجمهورية، وله صلاحية عزله، والقيام بمهماته في حل عجزه. وموقع القيادة، أو مقام القيادة المعظم، أو الولي الفقيه الذي أشير إليه، يعد الأول ضمن سلطات البلاد، ثم تتسلسل المواقع الباقية من رئيس الجمهورية والحكومة ومجلس الشورى الإسلامي، إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام والسلطة القضائية ومؤسسة الإذاعة والتلفزيون، فمجلس الأمن الوطني الأعلى والجيش وحرس الثورة الإسلامية. هذه المؤسسات الرسمية المعنية بصنع السياسات، تبدو جميعها ملتزمة بأهداف الثورة وبصيانة مكتسباتها، وما يظهر بينها من خلافات لا يعدو مجال الاجتهاد في التنفيذ، وفي حسن الأداء الإجرائي. في العملية هذه، تضبط ولاية الفقيه الإيقاع العام بين المؤسسات، وتتدخل لحسم خلافاتها، وإليها يعود نقض قانون أو إنفاذه أو تعليقه، إذا تعذر الأمر ضمن المؤسسات الرسمية المعنية. حصل ذلك أثناء ولاية هاشمي رفسنجاني الذي تصدى للمشاكل الاقتصادية الناجمة عن الحرب العراقية – الإيرانية، ومع محمد خاتمي الذي حاول القيام بإصلاحات توسع هامش الحريات الفردية والعامة، ومع أحمدي نجاد الذي تفاقمت معه الأوضاع الاقتصادية بسبب الحصار الذي ضرب على إيران، بالارتباط مع تعقيدات ملفها النووي.
إلى جانب هذه المؤسسات الرسمية، المسؤولة عن كل عملية السياسات العامة، ثمة مؤسسات أخرى غير رسمية، لها دور مواكب، وإن كان السؤال مطروحاً حول مدى استقلاليتها التامة عن النظام، كونها لا تتعارض مع الأسس والقيم التي يقوم عليها. تتوزّع هذه المؤسسات على قوى سياسية وعلى أحزاب، بعضها له صفة نخبوية، وضعيف التأثير، وبعضها الآخر ذو حضور جماهيري داخلي، على غرار جمعية المؤتلفة الإسلامية، ورابطة العلماء المناضلين، وتجمع علماء الدين المناضلين، وحزب كوادر البناء الإيراني إلى جانب هذه الأحزاب هناك القوى الدينية، وفي صدارتها، مؤسسة الحوزة العلمية، والأمانة الدائمة لأئمة الجمعة والجماعة، أما القوة الاقتصادية، المتدخلة في صناعة القرار السياسي، فأبرزها البازار، والمؤسسات الخيرية التي تتميز بأهميتها الاجتماعية والاقتصادية، ومنها مؤسسة المعوقين والمستضعفين ومؤسسة الشهداء والمضحين، ومؤسسة الإمام الرضا…
وكتتمة لهذه المؤسسات، هناك القوى الثقافية والإعلام والصحافة، والقوى العسكرية، وجماعات الضغط، أو الجماعات المصلحية… إلّا أن ما يظل لافتاً الانتباه، هو أن تعدد المؤسسات هذه، وفي المجالات كافة، يبقي الثابت ثابتاً في إيران، ولا يطاول التغيير سوى الميدان الإجرائي الذي يكفل نفاذ الثوابت. هنا ومهما قيل من اجتهادات، فإن الأيديولوجي هو الثابت الأساس، واللمسة «الإلهية» التي يعمل على إضافتها إلى الأعمال كافة كما إلى مقاصدها، تظل في منأى عن أي تغيير حقيقي، في الظروف الإيرانية المعروفة. يبدو ذلك واضحاً، عندما يشار إلى مصادر القوة في النظام السياسي الإيراني، حيث لا تخطئ العين أن الخيط الناظم تخطيطاً ومراقبة، ودعماً ومنعاً، هو الموقع الديني، أي موقع الولي الفقيه، وهذا يستند إلى قوى محافظة تتوزع على الاقتصاد، كما في البازار ذي الدور التاريخي في إيران، والمتحالف مع المؤسسة الدينية، وعلى الجمعيات التي ذكرت، وهي مواقع تجارية وإنتاجية وقنوات توزيع، وعلى المؤسسة العسكرية، حيث الباسيج وحرس الثورة مكلفان حماية الثورة وصيانة مكتسباتها. إذاً، يظهر للمتابع، أن الفصل الدستوري بين المؤسسات يظل خاضعاً لتوازن القوى بينها، وأن أهميتها تنبع من الشخص الذي يتولاها، ومن عناصر القوة والدعم التي تمتلكها، أو تفتقر إليها.
ينتهي المؤلف من استعراضه العام، إلى خلاصة حول الرؤية المستقبلية للسياسات العامة في إيران، فيرى أنها لن تشهد تطوراً جوهرياً يمس الواقع الاستراتيجي في البلاد، مثلما لا يرى تغييراً في طبيعة ممارسات النظام الأساسية. وفي المقابل، فإن ما يمكن أن يشهد تعديلات لا يتعدى تنويع إدارة العلاقات الخارجية، والسماح بحيز أوسع في مجال الحريات العامة، وتجديد العزم على السيطرة على السوق، والوضع الاقتصادي المتدهور، تضخماً وبطالة وسعر صرف عملة، وتراجع ناتج عام… كل ذلك في سبيل عدم المساس برضى العامة، الذي لا تستقيم مشروعية النظام من دونه والذي ينال، في حال غيابه، من معنى «ولاية الفقيه» ذاتها، التي تحرص على ولاية الأمة على نفسها، بعيداً من الاستيلاء والسيطرة والإكراه.
ثمة سياسات كثيرة في إيران، لكن الطريق إلى المستقبل ما زال محفوفاً بمشكلات نظرة إيران إلى نفسها أولاً، وفي قدرتها على تعديل هذه النظرة… قد نكون عندها أمام إيران أخرى جديرة بتراثها التاريخي والحضاري.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى