كيف ستعيد أميركا تشكيل العالم بعد أوكرانيا
ملامح مرحلة جديدة في تكوين العالم وتوزيع القوى والقوّة فيه ترتسم بسرعة. الحكومة الأميركيّة في طور تأنيب الضمير (الإمبريالي) ومراجعة الذات (الحربيّة). هي غير راضية عن شكل الكوكب. كانت تظنّ أن انهيار الاتحاد السوفياتي سيضمن لها السيطرة على الكون لأجيال وأجيال. ما مِن إمبراطوريّة تظنّ أن سيطرتها يمكن أن تزول أو أن تضمحلّ. ضمان الاستمراريّة الأبديّة للسطوة الأميركية هي الشغل الشاغل لمخطّطي البنتاغون. كان واحد من أولى أعمال وزير الدفاع الأميركي الأسبق، دونالد رامسفيلد، تشكيل لجنة من الخبراء والمؤرّخين لاستخلاص دروس عن انهيار الإمبراطوريّات في التاريخ (أتى ببرنارد لويس، المستشرق الصهيوني، من أجل أن يشاركهم انطباعاته عن الخطر الإسلامي وعن دروس انهيار الإمبراطوريّات الإسلاميّة.). كل تقارير «استراتيجيّة الأمن القومي» التي تصدر عن كل إدارة جديدة تكون مهووسة بالأخطار المحتملة من جهات محدّدة، خصوصاً الصين. لم تكن أميركا تحسب حساباً للخطر الروسي. هي اليوم في مرحلة إعادة النظر. من المرجّح أن هناك إعادة تنظيم للميزانيّة العسكريّة والاستخباراتيّة لرصد ميزانيّة أكبر لمواجهة الخطر الروسي (الكونغرس زاد على رقم الميزانية التي طلبها منه بايدن). لا تزال أميركا تستخف بالقوّة الروسيّة مقارنة بخوفها من الخطر الصيني الداهم. القوة الاقتصاديّة هي أهم عناصر القوّة في الحسبان الأميركي لأنها هي التي تؤهل لميزانيّات عسكريّة ضخمة. ميزانيّة روسيا العسكريّة لا تصل إلا إلى 8 في المئة من الميزانيّة العسكريّة الأميركيّة العملاقة. اللحاق مسألة صعبة، والحصار الاقتصادي الخانق الذي باتت أميركا تتقنه لخنق الشعوب فعّال للغاية في إضعاف القوة العسكريّة. وحدهما إيران وكوبا، أوجدتا طرقاً ووسائل للخروج من الحصار الجائر بخسائر أقلّ (نسبيّاً، لكن الـ«إيكونومست» اعترفت قبل أسابيع أن اقتصاد إيران أفضل ممّا كان وممّا تريده له أميركا).
أميركا غير راضية عمّا يجري في أوروبا اليوم. هي كانت واثقة أنها حاصرت روسيا وستمنعها من ممارسة أي نفوذ خارج حدودها. حتى في داخل حدودها، هي كانت ناشطة في التجسّس وفي الاختراق عبر منظمات المجتمع المدني ومن قبل الإعلام المُسمّى «جديد» و«مستقل» (ماذا لو أطلقنا على الإعلام المُموَّل من إيران وصف «المستقل» كما تطلق وسائل إعلام «جديدة» على نفسها وصف المستقلّة فقط لأنها تتلقّى التمويل من حكومات ومؤسّسات أوروبيّة رجعيّة، لكنها تجزم أن لا أجندة عند حكومات أوروبا لأنها منزّهة). وكان أي معارض روسي، ولو لم يحظَ بشعبيّة في بلاده، يتلقّى تغطية واسعة وبطوليّة في إعلام الغرب. وكل معارض روسي يمرض، يكون هدفاً لمؤامرة من بوتين. وقبل أسابيع نشرت صحف غربيّة خبراً عن مقتل صحافيّة روسيّة كانت قد انتقدت بوتين. هكذا كانت العناوين. لكن عندما تقرأ الخبر تدرك أن الموضوع هو عنف شخصي، وأن صديقها قتلها وأنه ليس من أسباب سياسيّة لما جرى. ولنتذكّر أن يحيى شمص (المتهم بصلات مخدراتيّة) تلقّى تغطية واسعة في إعلام الغرب فقط لأنه معارض لحزب الله. فلنتوقّف لبرهة عند هذه المفارقة: تلقّى يحيى شمص تغطية في إعلام الغرب أكبر بكثير من تغطية النائب محمد رعد، الذي نال أكبر عدد أصوات في آخر انتخابات. هذا يعطينا فكرة عن معايير وحسابات الغرب (أشكّ أن واحداً من المراسلين الغربيين، أو واحدة، التقت بمحمد رعد). أميركا قلقة من التحدّي الذي لاقته من بوتين في هذه الأزمة. لم تكن تتوقّع ذلك مع أنه كانت هناك مؤشرات على نقمة روسيّة-صينيّة من سلوك الغطرسة الأميركي والذي تجلّى في الغزو الغربي لليبيا.
الحكومة الأميركية غاضبة جداً وهذا يظهر في سلوكها. حظر الإعلام الروسي وإصدار تنبيهات تويتريّة عن روابط لإعلام معاد ــــــ مع دولة ليست أميركا في حالة عداء رسمي معها ــــــ يشي بحلول مرحلة جديدة في العلاقة الدوليّة وفي إدارة الوضع الداخلي. ما إن تحرّك الجيش الروسي حتى اضمحلّ الخلاف في الداخل الأميركي وأصبح اليسار الصغير في الكونغرس الأميركي متحمّساً للحرب، ويشارك القوى المتنفّذة في الحزبيْن في عنفوان الوطنيّة والإصرار على السيطرة الأميركية الكليّة. لم تعد مساحة النقاش في الغرب كما كانت حتى في سنوات الحرب الباردة. كانت هناك إمكانيّة مناقشة فرضيّات الإدارات الأميركيّة عن الاتحاد السوفياتي، لكن هذا غائب اليوم. تجول بين الصحافة الأوروبيّة والأميركيّة ولا تجد أي مساحة نقديّة. ليس هناك من رأي معارض أو مختلف. حتى الكتّاب الذين يعارضون ــــــ أو كانوا يعارضون ــــــ توجّهات إمبراطورية الحرب سكتوا، لا بل أسهموا من خلال كتاباتهم في المجهود الحربي (هالني مثلاً كتابات ميشيل غولدبيرغ، الكاتبة في «نيويورك تايمز»، والتي عرفتها بعد 11 أيلول وكانت في موقع «صالون» من القلّة المعترضين على التعامل الأميركي مع المسلمين).
ماذا ستفعل أميركا في خلال الأزمة وبعدها. على الأرجح أن الإدارات المتعاقبة ستلجأ إلى جملة من السياسات والأعمال بما فيها:
1- تدعيم حلف شمال الأطلسي وزيادة الإنفاق العسكري فيه. ألمانيا باشرت بزيادة الإنفاق العسكري وسيكون مطلوباً منها الأكثر. ألمانيا أعلنت على الفور زيادة إنفاقها العسكري بنسبة 112 مليار دولار، ممّا يزيد نسبة الإنفاق من مجمل الناتج القومي إلى 2 في المئة من 1.53 في المئة والتزمت ستّ دول في حلف شمال الأطلسي بزيادة الإنفاق العسكري بنسبة 133 مليار دولار. حتى السويد الحيادية المسالمة التزمت بالزيادة. وسويسرا ضربت بحياديّتها التاريخيّة عرض الحائط كي تمتثل للمطالب الأميركيّة بالإذعان والطاعة من قبل كل دول أوروبا، في «الناتو» وفي خارجه. ونسبة الـ 2 في المئة من الناتج القومي على الإنفاق العسكري كانت قد وصلته دول اليونان وكرواتيا وبريطانيا وإستونيا ولاتفيا وبولندا ولتوانيا ورومانيا وفرنسا ــــــ وهذه النسبة كانت قيادة «الناتو» قد طلبتها. أميركا كانت في مرحلة إعداد للمعركة المقبلة. وبدلاً من تخفيض عدد أعضاء الحلف، ستصرّ أميركا على زيادة الأعضاء وقد تصرّ في مرحلة لاحقة على ضمّ أوكرانيا إلى الحلف لاستفزاز روسيا واستدراجها إلى مواجهة عسكريّة. وليس مستغرباً لو أن أميركا أصرّت على حيازة ألمانيا على السلاح النووي (تحتفظ أميركا بسلاح نووي على الأرض الألمانيّة بالرغم من معارضة الشعب هناك لذلك في السبعينيّات والثمانينيّات). وعدد الأسلحة النوويّة الأميركيّة في أوروبا غير معروف (سرّي) وهو يُقدَّر بـ 100 منتشرة في ست دول على الأقلّ. وهذا السلاح نُشر منذ الخمسينيّات ولم يؤثّر انهيار الاتحاد السوفياتي على وضعه. أي أن أميركا تستعمله ليس فقط لتخويف الاتحاد السوفياتي بل لبسط سيطرة أميركيّة تامّة على القارّة.
2- التفكير الجدّي في إنزال السلاح النووي التكتيكي إلى الميدان. والسلاح النووي التكتيكي هو سلاح يقضي على أحياء في مدن بدلاً من تدمير مدينة بكاملها. و«نيويورك تايمز» نشرت قبل أيّام مقالة تحاول فيها جعل فكرة استعمال النووي التكتيكي مقبولة من العامة. وقد أدلى مسؤول استخبارات سابق في أميركا برأيه، وقال: «لا يمكنك إدارة الخدّ الأيسر كل الوقت». والحديث عن السلاح النووي التكتيكي سبق هذه الأزمة. ومن المعروف أن أميركا هدّدت نظام صدّام به. ففي اللقاء الشهير قبل الحرب في 1991 بين جيمس بابكر وطارق عزيز، هدّد جيمس بابكر، في تلميح كان أقرب إلى التصريح، بأن أميركا ستردّ بصورة فظيعة إذا أصاب جنودها سلاح كيماوي عراقي (لم يكن النظام العراقي يملك سلاحاً كيماوياً كما هو معروف). وأميركا كانت على وشك استعمال النووي التكتيكي في معارك تورا بورا في أفغانستان كي تهدم الجبال فوق رؤوس المختبئين فيها عندما أصيبت بالحنق من الفشل في العثور على حليفها السابق، أسامة بن لادن. طوّرت أميركا بعدها قنبلة الـ«مواب» وهي قنبلة ذات قدرات تدميريّة هائلة لا يفوق قدرتها إلا السلاح النووي. ولم تتوقّف أميركا عن رمي الـ«مواب» على أفغانستان ــــــ التي لم تعانِ، بنظر إعلام الغرب، وإعلام التمويل الغربي إلا بعد مغادرة جيش الاحتلال الأميركي لها.
3- جعل حلف شمال الأطلسي حلفاً عالمياً. لقد رُفعت مرتبة قطر في التحالف مع أميركا. في الوقت الذي كان فيه حكام العرب ينتظرون الفرصة للقاء بايدن (الذي لا يزال يرفض مهاتفة محمد بن سلمان)، دعا بايدن الأمير القطري إلى لقاء خاص وحميم في البيت الأبيض، وتمّ الإعلان عن رفع مرتبة قطر إلى «حليف أساسي من خارج الناتو». واللقاء بين بايدن والحاكم القطري سبق الحرب على أوكرانيا وهو تضمّن حديثاً عن مدّ ألمانيا وأوروبا بالغاز القطري (يبدو أن أميركا كانت مستعدّة جيداً لهذه الأزمة، قبل أشهر من التدخّل العسكري الروسي). ولقد أخذت قطر مرتبتها الجديدة على محمل الجدّ وهي تحاول جاهدة الظهور بمظهر الدولة الغربيّة في عواطفها الجيّاشة نحو الشعب الأوكراني. لم يلقَ شعب فلسطين هذه العاطفة الجيّاشة من قطر من قبل. إعلام النظام القطري لم يكن في هذه الأزمة إلا اجتراراً لإعلام حلف شمال الأطلسي، وتتعامل «الجزيرة» وغيرها مع أوكرانيا أنها هي قلب العروبة النابض.
4- إيلاء الحلفاء بين الأنظمة الاستبداديّة أهميّة أكبر وتولية مصالحهم في العلاقات. أسابيع فقط من الحرب الروسية على أوكرانيا وأميركا تصلح علاقاتها مع النظام السعودي والإماراتي. النظام القطري لا يحتاج إلى عناية خاصّة لأنه مطلق الطاعة والولاء ومرتبته التحالفيّة ارتفعت في نظر واشنطن. والنظام السعودي عبّر عن امتعاضه في حديث مع «وول ستريت جورنال» عن كثرة الإشادة الأميركيّة بالحليف القطري. لكن تحفّظ الحكومة السعودية والإماراتيّة، وحتى حكومة العدوّ، عن اعتناق موقف «الناتو» بالكامل (بالنسبة إلى روسيا) أزعج الحكومة الأميركيّة. لكن بدلاً من رفع العصا بوجه الحلفاء، عمدت واشنطن إلى إرضائهم وتكرار مواقف الدعم والتعهد بالدفاع عن أمن النظام. لم تعد أميركا تتحمّل رقصات توازن بينها وبين العدوّ الروسي. وأميركا هي اليوم في حالة عداء مطلقة ضد روسيا. والحلفاء من أمثال السعودية والإمارات سيحظون بالمزيد من الدعم الأميركي، السياسي والعسكري. سنسمع عن شحنات سلاح جديدة وعن قواعد أميركية جديدة وعن وفود وزيارات كثيرة. والحاكم السعودي الشاب بات في موقع تفاوضي حول صعوده إلى العرش، وحظوظ نيله الرعاية الأميركيّة لصعوده باتت شبه محسومة. الاهتمام بطغاة الخليج كان بادياً هذا الأسبوع، حيث حرص وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، على ترضية محمد بن زايد ومبعوثين سعوديّين. والأكاديمي الشاب، غريغوري برو، على حق عندما علّق قائلاً إن هذا الاهتمام من قبل إدارة بايدن بالأنظمة الاستبداديّة بالخليج ينسف نظريّة هنتنغتون من أساسها.
5- حظر التسليح الروسي. هناك قانون أميركي من عام 2017 يُعرف بأحرفه الأولى، قانون «كاتسا» وهو يفرض عقوبات على الدول التي تدخل في عقود مع روسيا في مجال الدفاع والاستخبارات «بصورة كبيرة». أي إن القانون ضبابي وهو كان يفترض أن يعاقب تركيا والهند لاستيرادهم شبكة «أس 400». لكن مرتبة الحلفاء أدّت إلى التساهل كما أن علاقة تركيا بروسيا وبأوكرانيا أفادت أميركا لتمرير رسائل. لكن مساعي التفاوض التركيّة قد لا تكون مُحبّذة في واشنطن لأن أميركا تريد من هذه الحرب أن تستمرّ إلى ما لا نهاية لو أمكن من أجل استنفاد طاقات وموارد روسيا. وقد كتب ديفيد شينكر (عرّاب نخبة «ثوّار» لبنان) مع زميل له من «مؤسّسة واشنطن» مقالة في «وول ستريت جورنال» يدعوان فيها إلى التشدّد في العقوبات على الحلفاء الذين يستوردون السلاح من روسيا. لن تتساهل أميركا في هذا الخصوص بعد اليوم. أي إنه من المتوقّع أن تزيد المبيعات الأميركية من الأسلحة.
6- التعامل مع مثلّث القوة في العالم. ريتشارد نيكسون نظر إلى توزيع القوى في العالم ورأى أن العالم المثلث الأقطاب يحتّم محاولة طرف فيه جذب طرف آخر له. هذا ما حفّزه على تجاوز موانعه العقائديّة من أجل أن يبيع تايوان ويغضّ النظر عن عدائه المرضي ضدّ الشيوعية لكسب الصين إلى صف أميركا. لم تصبح الصين حليفة لكن كل ما يحتاجه المُخطّط في العلاقات الدوليّة أن يكون طرفه أقرب إلى طرفٍ ثانٍ من الطرف الثالث في المثلّث. وهذا ما حصل وأضعف الموقع السوفياتي. كان وضع الاتحاد السوفياتي سيكون أفضل بكثير لو أنه اعتنى أكثر بإصلاح العلاقة مع الصين لتفويت الفرصة على التآمر الأميركي ضدّه. اليوم، أميركا في موقع صعب. كيف تقترب من الصين أكثر وهي تكنّ عداءً نحو الصين يفوق عداءها نحو روسيا؟ والعلاقة بين الصين وروسيا ممتازة وهي أوثق بعد أزمة أوكرانيا لأن الصين تحتاج إلى تعاون روسي من أجل اجتراح سبل تجاوز العقوبات الأميركية القاسية والوحشيّة (هي وحشيّة على الشعوب قبل أن تكون ضد الأنظمة). ومهما حاولت أميركا أن تُبعد الصين عن روسيا، فليس لديها ما تعطيه للصين غير تخفيف حدّة العداء الشديد. وتخفيف حدة العداء لا يغيّر من التخطيط الاستراتيجي الأميركي الذي يتعامل مع الصين على أنه الخطر الأكبر. أميركا كان لديها الكثير لتقدّمه للصين في عام 1970: عضويّة مجلس الأمن وطرد تايوان من الأمم المتحدة بالإضافة إلى إنشاء علاقة ديبلوماسيّة، بالإضافة إلى التعامل مع الصين على أنها دولة أكبر مما كانت في حينه. ماذا تستطيع أن تقدّم أميركا للصين اليوم؟ اعتبارها دولة عظمى وهي كذلك من دون مبالغة أميركية ديبلوماسيّة.
7- جرّ روسيا إلى حروب إنهاك. هناك نظريّة أن الحرب الروسية في أوكرانيا لم تكن إلا فخّاً نصبته أميركا لها. وأميركا تحمّست كثيراً لهذه الحرب وكان واضحاً أنها كانت تعدّ لها. كانت القوّات الأميركيّة قد انتشرت في أنحاء مختلفة من أوروبا خصوصاً في بولندا، بالإضافة إلى تولّي أجهزة الاستخبارات الأميركيّة مهمّة تقرير أجندة الصحف الأميركيّة. فتحتُ ثلاث صحف من باب التجربة: «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«غارديان» البريطانيّة. نفس الأخبار والعناوين موجودة في الصحف الثلاث، ومنسوبة كلّها لمصادر عسكريّة واستخباراتيّة أميركيّة. كانت الصحف البريطانيّة تتميّز عن الصحف الأميركيّة لكن ذلك تغيّر منذ الحرب في سوريا حين تطابقت التغطية بالكامل وأصبحت الـ«غارديان» أكثر تصلّباً في الصهيونيّة وفي تأييد آلة الحرب الأميركيّة من صحف أميركا. قد تصل أوكرانيا وروسيا إلى تسوية لكن أميركا ستعطّلها. طلع المبعوث الأوكراني إلى مفاوضات تركيا بين الطرفيْن بتصريحات متفائلة لكن وزير الخارجيّة الأميركي سرعان ما أبطل مفعول التفاؤل وخفّض منسوب الترحيب بشأن التقدّم في المفاوضات. أميركا تبحث عن حرب أفغانستان جديدة كي تغرق روسيا في حرب لا تنتهي إلا بانهيار الدولة. ليس هناك من تعداد للسلاح الذي هطل على أوكرانيا، لكن تذكّر أو تذكّري أن حتى السويد والنروج شاركت في الحرب الأوكرانيّة.
8- التركيز على دول العالم النامي في الاستراتيجيّة الأميركيّة لصنع تحالف عالمي ضد أعدائها. الصحف الغربيّة ضجّت بقوّة التحالف العالمي الذي تقوده أميركا (طبعاً تحت مسميّات الحريّة ــــــ وتحالف الحريّة هذا يضمّ مستبدّين من كل حدب وصوب)، لكن الوقائع في تصويت الجمعيّة العاميّة للأمم المتحدة أثبتت عكس ذلك. كانت أميركا تريد أن تحصل على إجماع كل دول العالم لكن تحالفها كان غربيّاً صرفاً. دول كبرى في العالم النامي حاولت الحفاظ على مسافة من موقف أميركا. الهند وجنوب أفريقيا والصين وباكستان كلّها تحافظ على علاقة وديّة مع روسيا. ستضطرّ أميركا إلى إنفاق المزيد من المال وشحن المزيد من السلاح وشنّ المزيد من الحروب لجلب المزيد من دول العالم النامي إليها. لقد فضحت هذه الحرب الطابع العنصري الصارخ للتحالف الغربي ومعاييره. لم يعد ممكناً ستر طبيعة سيادة العنصريّة البيضاء في صلب التحالف الغربي. لا يمحي ذلك الترحيب بمسؤول من هذه الدولة الآسيويّة أو نشر خطاب وزير الخارجية الكيني الذي هو في الأساس أداة بيد الإدارة الأميركيّة. (واختفى وزير الخارجية الكيني عن الساحة بعد خطابه في الأمم المتحدة، والذي أرادته البروباغندا الأميركيّة أن يصبح شهيراً لأنها استعملته بصورة عنصريّة كي تُكسي عدوانيّتها بلسان فرد أفريقي).
9- الحرب الدعائيّة ستستعر أكثر من أي وقت. رأينا ذلك على مرّ الأسابيع الماضية. «واشنطن بوست» (وهي أكثر مطبوعة ملتصقة بأجهزة الاستخبارات الأميركيّة) دعت جهاراً إلى تكرار تجربة الحرب الباردة في شنّ «حرب ثقافيّة» ضد روسيا وغيرها من أعداء أميركا. لكن الصحيفة نسيت أن الحرب الثقافية الماضية تضمّنت نشر عقيدة بن لادن وصحبه حول العالم لأن تلك العقدية كانت مؤاتية ضد الشيوعيّة.
نحن في مرحلة قلقة ومضطربة من العلاقات الدوليّة. صحف الغرب (وتوابعه في بلادنا) مشغولة بالتدخّل العسكري الروسي في أوكرانيا. لكن التدخّل الأميركي في أوكرانيا لا يقلّ عن تدخّل روسيا. هل من شكّ أن ضبّاطاً أميركيّين يقودون كل العمليات العسكريّة الأوكرانيّة؟ هل من شك أن هناك شركات علاقات عامّة تكتب خطب القادة الأوكرانيّين (لقد علمنا رسميّاً أن شركة علاقات عامّة استأجرتها حكومة بايدن كي تكتب خطب سفيرة أوكرانيا في أميركا). أميركا لن تتوقّف، هي ستستمرّ لأنها في طور الانتقام من تحدّي روسيا لها. والانتقام الأميركي، كما رأينا بعد 11 أيلول، أبشع بكثير من عوائد القبائل العربيّة القديمة.
صحيفة الأخبار اللبنانية