كيف شغلت أوكرانيا كيري عن فلسطين! (سليم نصار)

 

سليم نصار

عندما تولى فلاديمير بوتين مسؤولية الحكم في روسيا، خلفاً للرئيس بوريس يلتسن، ألقى خطاباً في مجلس الدوما وصف فيه إنهيار الاتحاد السوفياتي بأنه "أكبر كارثة جيو-سياسية حدثت في القرن العشرين."
تعهد بوتين في ذلك الخطاب بانهاء حرب الشيشان بما يعزز سيطرة موسكو على وحدة تراب الدولة الروسية. وكان بذلك التلميح يشير الى أذربيجان وكازاخستان وتركستان ومختلف الجمهوريات الاسلامية في الاتحاد السوفياتي السابق.
في ضوء تلك الوعود البرّاقة، طلب بوتين من مهندسي الألعاب الاولمبية في سوتشي إظهار تلك المناسبة كمعرض عالمي تشهد من خلاله الدول المشاركة على قوة روسيا تحت وصايته. وعلى الرغم من إنكماش موازنة الدولة، فان الخمسين مليار دولار التي خصصها للدورة الشتوية، توقّع بوتين أن تزيد الاستثمارات وتوقف عمليات تهريب الرساميل الى الخارج.
ويبدو أن فكرة تعزيز حاضر روسيا، عبر تغيير حدود الدول المحيطة بفضائها، أزعج الدول الغربية التي رأت في تصرف الرئيس بوتين استراتيجية شبيهة باستراتيجية تمدد الشيوعية. وربما ظهرت تلك النيات بوضوح في حرب صيف سنة 2008 بسبب إعلان إقليمَي أبخازيا واوسيتيا الجنوبية الانشقاق عن جورجيا، وإعتراف موسكو بهما.
ومنذ ذلك الحين وموسكو تتطلع بحذر الى المحاولات المتكررة بهدف إجتذاب جورجيا واوكرانيا ومولدافيا الى نادي الاتحاد الاوروبي. وقد نبّه وزير الخارجية سيرغي لافروف واشنطن الى أهمية إحترام المصالح الأمنية المشتركة للبلدين. كما طلب من صديقه الوزير جون كيري إحترام تاريخ روسيا.
ومع أن شبه جزيرة القرم تتمتع بحكم ذاتي، وهي تابعة لاوكرانيا، إلا أن روسيا تعتبرها أكثر من ضرورية لحماية أمنها الاستراتيجي. ذلك أنها تضم ميناء "سيفاستوبول" حيث يركن الأسطول الحربي الروسي. كما تشكل في الوقت ذاته قاعدة للانطلاق في اتجاه المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط. ومن هذا الموقع تنطلق السفن الروسية الى ميناء طرطوس. وخسارة هذه القاعدة سيؤدي الى تعطيل طرق إمداد النظام السوري بالسلاح الروسي.
تدّعي روسيا أن جزيرة القرم بقيت تابعة لها على مدى مئتي سنة. ثم ألحِقَت باوكرانيا في عهد الاتحاد السوفياتي. وبعد حصول اوكرانيا على إستقلالها توصلت واشنطن وموسكو الى تفاهم يقضي بتأجير القاعدة الى روسيا مقابل إعترافها بوحدة الأراضي الاوكرانية.
ويقضي ذلك الاتفاق بانهاء فترة تأجير القاعدة سنة 2017، لولا أن الرئيس فيكتور يانوكوفيتش مددها لغاية سنة 2024. وكان ثمن ذلك إلتزام موسكو بدفع رسوم سنوية تبلغ 7 مليارات دولار، ومنح تخفيض بنسبة 30 في المئة على الغاز المصدَّر الى اوكرانيا.
يُستَنتَج من طبيعة التحركات السياسية المكثفة أن الفريقين مهتمان بزيادة ضغوطهما العسكرية والاقتصادية بحيث تنتهي المفاوضات الى ربح ملموس. ويرى المراقبون أن مركزية القرار الروسي، الممثلة بالرئيس بوتين وحده، ربما تساهم في إرباك الفريق الغربي الممثل بإتجاهات عدة. أي باتجاهات الوزير الاميركي جون كيري ومقررات بروكسيل وتوصيات الحلف الأطلسي والتزامات الاتحاد الاوروبي. وأقصى ما توصل اليه زعماء هذا الخليط هو إقامة حزام أمني عسكري على طول جبهة المواجهة كي يشعر بوتين بجدية التحدي لعله يتراجع عن تصلبه.
المستشارة الالمانية، انغيلا ميركل، عقدت جلسة مصارحة مع بوتين أقنعتها بأن تراجعه المحتَمَل سيكون في الأمور الشكلية وليس في القضايا الجوهرية. وتدّعي صحف المعارضة الالمانية أن المستشارة إقتنعت بحججه لأنها متورطة معه في عقود اقتصادية وعسكرية وتجارية وثقافية.
والمعروف أن فلاديمير بوتين أمضى صباه في برلين الشرقية عندما كان ممثلاً للاستخبارات السوفياتية (كي جي بي). في حين أمضت ميركل المرحلة الأولى من عمرها في المانيا الشرقية، قبل أن تنتقل الى العمل الحزبي في المانيا الموحدة. وحول ذلك الماضي المشترك، بدأت صداقتها مع الرئيس بوتين، خصوصاً أنها تتقن اللغة الروسية، وهو يتقن اللغة الالمانية.
بين النصائح المجدية التي قدمتها ميركل لاختصار وقت التسوية، كانت النصيحة المتعلقة بتوزيع الأدوار. أي أنها إنتقدت الأسلوب الاميركي في عمليات التفاوض. وهو أسلوب عقيم يسمح للرئيس باراك اوباما بمهاجمة الرئيس بوتين، في حين يتودد وزير خارجيته جون كيري للوزير سيرغي لافروف، ويعامله كأنه صاحب الحل والربط.
وسائل الاعلام الروسية طرحت هذا الأسبوع سلسلة أسئلة تتعلق بتوقيت تفجير الاضطرابات الداعية الى إبعاد اوكرانيا عن روسيا ودمجها في الاتحاد الاوروبي! بعض هذه الوسائل عزا اختيار التوقيت الى إقتراب موعد الحسم الاميركي حول مستقبل القضية الفلسطينية. وليس من قبيل الصدفة أن يصرف الوزير جون كيري اهتمامه عن حلٍ رفضه بنيامين نتنياهو… ويركز جهوده حالياً على معالجة أزمة اوكرانيا. وربما تكون الصدفة وحدها فرضت تحول كيري عن قضية صرف من أجلها الكثير من الوقت والجهد والرحلات المكوكية.
ويبدو أن كيري ليس وحده العنصر الذي غاب عن ساحة الاهتمام، بدليل أن المعلق الاسرائيلي اليكس فيشمان، وجد في المنطقة الهدوء الذي تنشده بلاده. وقد كتب، في هذا السياق، مقالة في جريدة "يديعوت احرونوت" إستند فيها الى تقرير شعبة الاستخبارات "أمان"، والى المحاضرة الى ألقاها رئيسها اللواء أفيف كوخافي.
ويمكن تلخيص المقالة بالتالي: أولاً – ان سوريا و"حزب الله" – بحسب التصور الأمني الايراني – هما خط الدفاع الأول في مواجهة اسرائيل، وينحصر عملهما في ردع كل تحرك اسرائيلي يهدف الى ضرب ايران. ولكن هذه الجبهة أخذت تضعف على خلفية تهديدات الجهاد العالمي والفوضى الاقليمية التي تجتاح الشرق الأوسط.
ثانياً – الدعامتان المساندتان لايران، أصابهما الخلل أيضاً. وهما يتمثلان بقوة "حزب الله" ومكانة الرئيس بشار الأسد. والثابت أن ورطة "حزب الله" في سوريا ستُفقده زعامته في لبنان وسوريا. أما بالنسبة الى الأسد، فان التقديرات الموضوعية لن تمنحه أي دور في إطار التسوية السورية. والسبب أنه فقد شرعية حكمه لشعبه بعدما تجاوز عدد الضحايا المئة والثلاثين ألف شخص.
ثالثاً – ان صورة الوضع في سوريا مريحة جداً لاسرائيل. والسبب أن الجيش المؤلف من 400 ألف جندي لم يبقَ منه، بعد ثلاث سنوات من الحرب الأهلية، سوى نصفه، أي 200 ألف جندي. إضافة الى الذين إلتحقوا بصفوف المعارضة، فان الخسائر تقدَّر بثلاثين ألف قتيل وتسعين ألف جريح وأربعة ملايين لاجىء.
رابعاً – ان فشل مبادرة كيري لن يفضي الى انتفاضة ثالثة على الساحة الفلسطينية. خصوصاً بعدما أصبحت "حماس" مشغولة بصراعها الداخلي على الحكم في غزة. وقد زاد من تفاقم الوضع السياسي ما يراه المواطنون من تجاهل ايران وتركيا ومصر لهم.
في موازاة هذه التقديرات النظرية، ترى الدول الغربية أن الرئيس بوتين سيفقد فرصة تحقيق طموحاته الدولية القائمة على إعادة إنشاء "اتحاد" جديد قوامه اوكرانيا المقسَّمة وجزيرة القرم وبيلا روسيا والشيشان. وقد أضاف سوريا الى هذه الحزمة شرط بقاء الأسد في الحكم… واحتفاظه بقاعدة طرطوس.
أما في حال فشل هذا الرهان، فان موسكو تتطلع الى مصر كبديل محتمل. والبديل قد يكون في مصر، بعد وصول المشير عبدالفتاح السيسي الى رئاسة الجمهورية. وهو الذي زار روسيا بعد قطيعة طويلة. وعقد صفقة بثلاثة مليارات دولار تتضمن سربين من طائرات "ميغ-29" ومروحيات "أم.أي 35" ومنظومات دفاع جوي وسلاح متطور مضاد للدبابات. وعُلِم أن التمويل يمكن أن يأتي من دولتين خليجيتين.
وفي إطار التعاون، تردد أن مصر ستمنح روسيا خدمات بحرية في ميناء الاسكندرية. ويمكن أن تشكل هذه التسهيلات بديلاً من الخدمات التي تتلقاها روسيا في ميناء طرطوس، إذا ما سقط نظام الأسد. والثابت بعد كل هذا، أن دولاً كثيرة تراهن على مستقبل العالم العربي من نافذة "إذا" الشَرطية!


صحيفة النهار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى