كيف لم أعد يهوديًّا (2) (شلومو ساند)
شلومو ساند
ترجمة أسيل الحاج
كنا قد نشرنا نصاً من كتاب للمؤرّخ والكاتب الاسرائيلي شلومو ساند يحمل عنوان: "كيف لم أعد يهودياً"، الذي صدر مؤخّراً عن دار "فلاماريون" الفرنسية، وترجمه عن العبرية ميشيل بيليس. وفي ما يلي القسم المتبقي من النص.
دولة يهودية أم دولة طائفية
ترمي المقارنة الآتية إلى فكّ رموز قانوني المواطنة وتعليم الهوية اليهودية اللذين دخلا حيّز التنفيذ في إسرائيل منذ الثمانينيات: إذا قرّرت الولايات المتحدة الأميركية أنّها ليست دولة جميع المواطنين الأميركيين، بل دولة كلّ من يُعرَّف عنهم حول العالم على أنّهم أنغلو ـ ساكسونيّون بروتستانتيّون، فسيكون وجه الشبه صاعقاً بينها وبين إسرائيل. حتماً، سيبقى من حقّ الأميركيين الأفارقة والأميركيين اللاتينيين والأميركيين اليهود المشاركة في انتخابات الكونغرس ومجلس الشيوخ، شرط أن يتذكّر المنتخَبون أنّ الدولة الأميركية أنغلو ـ ساكسونية إلى الأبد.
سنذهب بالمقارنة أبعد من ذلك من أجل فهم الإشكالية فهماً أفضل: لنسلّم جدلاً أنّ فرنسا قرّرت تعديل الدستور، وقضت بتعريف البلاد على أنّها دولة "غاليّة – كاثوليكية" وأنّ نسبة 80 في المئة من أرضها لا يُمكن أن تُباع إلا لمواطنين غاليّين ـ كاثوليكيين، موضِّحةً أنّ مواطنيها البروتستانتيين أو المسلمين أو اليهود يتمتّعون بحقّ الاقتراع وحقّ الترشّح للانتخابات. ولنفترض أنّ التيّار القبليّ والمعادي للديموقراطية امتدّ إلى سائر القارة الأوروبية: ها هي ألمانيا تواجه صعوبات عدّة ناجمة عن ندبات الماضي وهي تحاول إعادة إرساء المبادئ العرقيّة القديمة. وها هي بريطانيا تعلن رسميّا أنّها لم تعد دولة البريطانيين من مواطنين اسكتلنديّين وغاليّين وأبناء المهاجرين من مستعمراتها السابقة، وأنّها أصبحت من الآن فصاعداً دولة الإنكليز المولودين من أمّهات إنكليزيّات. وها هي إسبانيا تحذو حذو جيرانها وتقرّر أن تضع حدّاً للخبث القوميّ وتعلن أنّها لم تعد ملكاً لجميع الإسبانيين وتصبح صراحةً دولة قشتالية ديموقراطية تسخو على أقلّياتها الكتلانية والأندلسية والباسكية وتمنحهم استقلالية محدودة.
إذا تجسّدت هذه التغييرات التاريخية على أرض الواقع، فستحقّق إسرائيل مصيرها وتغدو "منارة بين الأمم". وهكذا، تشعر براحة أكبر وتصبح أقلّ انعزالاً هي وسياسة الهويّة الحصريّة التي تنتهجها. ولكن، ثمة ما يشوب هذه اللوحة: فالإجراءات من هذا النوع غير مقبولة في دولة "طبيعية" ترتكز على مبادئ جمهورية. لم تكن الديموقراطية الليبرالية يوماً مجرّد أداة لتنظيم العلاقات الطبقيّة، بل ظهرت أيضاً على أنّها وسيلة يحدّد من خلالها المواطنون هويّتهم. ويُفترض أن يؤمنوا بأنّ هذه الديموقراطية هي ملكهم وأنّ من خلالها يعبّرون مباشرةً عن سيادتهم. أدّى البعد النموذجي والتكاملي دوراً بارزاً في ظهور الدولة القومية الديموقراطية، على الرغم من الفجوة التي تفصل ما بين النماذج والوقائع.
تغيب عن عالمنا اليوم سياسات شبيهة بتلك التي تمارسها إسرائيل تجاه الأقلّيات التي لا تنتمي إلى الإثنية المسيطرة، إلا عن البلدان الشيوعية سابقاً من أوروبا الشرقية حيث يتمتّع اليمين القومي بحضور بارز، لا بل مهيمن.
روح القوانين
بحسب روح القوانين السائدة، لا تنتمي إسرائيل إلى مجموع المواطنين المقيمين فيها بقدر ما تنتمي إلى أشخاص غير إسرائيليين. وتظهر على أنّها الإرث الوطني "لليهود الجدد" من حول العالم (مثل بول وولفويتز، الرئيس السابق للبنك الدولي، أو مايكل ليفي، فاعل الخير البريطاني الشهير، أو دومينيك ستروس ـ كان، المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي، أو فلاديمير غوسينسكي، الأوليغارشي الروسي المقيم في إسبانيا) أكثر ممّا هي عليه لعشرين في المئة من مواطنيها، وهم عرب وُلد أهلهم وأجدادهم وأهل أجدادهم على هذه الأرض. لذلك، يشعر بعضٌ من كبار الأثرياء اليهود في كل أنحاء العالم أنّ من حقّهم التدخّل في شؤون إسرائيل: فمن خلال الاستثمار الهائل في وسائل الإعلام وفي العملية السياسية، يؤثّرون أكثر فأكثر على الزعماء الإسرائيليين وتوجّهات البلاد.
نجد من بين "اليهود الجدد" أيضاً مثقّفين يعرفون أنّ دولة اليهود ملكٌ لهم. فأمثال برنار هنري – ليفي أو ألان ديرشويتز أو ألكساندر آدلر أو هوارد جايكوبسون أو هنريك برودر والعشرات غيرهم من مناصري الصهيونية الناشطين في مجالات عدّة من وسائل الإعلام الجماهيرية، لا يخطئون في ولاءاتهم السياسية: فالقُدس ملكُهم، على خلاف ما كانت تمثّل كلّ من موسكو للشيوعيين السابقين غير السوفياتيين، وبيجينغ للماويّين في الستينيات. ومن غير الضروري لهذه الغاية أن يعرف "اليهود الجدد" تاريخ هذه الأرض أو جغرافيتها، أو أن يتعلّموا إحدى لغتيها (العبرية أو العربية)، أو أن يعملوا فيها، أو أن يسدّدوا الضرائب والرسوم، أو ـ لا سمح الله ـ أن ينخرطوا في جيشها! جُلّ ما عليهم فعله زيارة إسرائيل لمدّة قصيرة ونيل بطاقة الهوية والحصول على إقامة مؤقّتة، قبل العودة إلى ثقافتهم الوطنية ولغتهم الأم، وامتلاك الدولة اليهودية إلى الأبد؛ يا لحظّ الذي يولد من أمٍّ يهودية!
أمّا السكّان العرب في إسرائيل، فحتّى إن تزوّجوا فلسطينية من الأراضي المحتلّة، لا يحقّ لهم اصطحابها إلى إسرائيل، خوفاً من أن تصبح مواطنة إسرائيلية ويرتفع بالتالي عدد السكّان غير اليهود في أرض الميعاد.
لمزيد من الوضوح: إذا جاء إسرائيل مهاجرٌ يهودي من روسيا أو الولايات المتحدة برفقة زوجته، تصبح هذه الأخيرة مواطنة إسرائيلية، ولا تُعتبر هي وأطفالها يهوداً إلا إذا اعتنقوا اليهوديّة بحسب القانون الديني. بعبارة أخرى، يتغلّب واقع ألّا يكون المرء عربيّاً في بلاد "اليهود الجدد" على واقع ألّا يكون يهوديّاً. لطالما تمّ التساهل أكثر مع المهاجرين "البيض" الذين أتوا من القارّة الأوروبية أو الأميركية، على الرغم من أنّهم ليسوا يهوداً. ومن أجل تخفيف الثقل الديموغرافي الذي يشكّله العرب، بدا من المستحسن زيادة عدد السكان غير اليهود من الأوروبيين البيض.
ومع ذلك، ليست الدولة اليهودية يهوديةً جدّاً! أن يكون المرء يهوديًّا في إسرائيل لا يعني بالضرورة أن يحترم الوصايا أو أن يؤمن بربّ اليهود. فلا ضير أن يلهو مثلاً بالمعتقدات البوذيّة، على غرار ديفيد بن غوريون، أو أن يأكل القريدس الرمادي على غرار أرييل شارون. ويمكنه ألّا يعتمر الكيبا، مثل غالبية زعماء إسرائيل وقادتها العسكريين. طبعاً، لا تعمل وسائل النقل أيّام السبت، ولكنّ استخدام السيارات الخاصّة مسموح. وقد يتبادل الناس الإهانات في ملاعب كرة القدم يوم الراحة المقدّس من دون أن يتجرّأ أي سياسيّ متديّن على الاحتجاج. حتّى في عيد الغفران، وهو اليوم الأكثر تقديساً في الديانة اليهودية، يستطيع أطفال إسرائيل اللهو على درّاجاتهم الهوائية في كلّ ساحات المدينة. حتّى انّ التظاهرات المعادية لليهود مشروعة في دولة "اليهود" شرط ألّا ينظّمها العرب.
إذاً، ما معنى أن يكون المرء يهوديّا في دولة إسرائيل؟ يعني أن يكون مواطناً محظوظاً يتمتّع بامتيازات مرفوضة لغير اليهود، ولا سيّما العرب منهم. إن كان المرء يهوديّا، يمكنه أن يتماهى مع الدولة التي ترى نفسها انعكاس الجوهر اليهوديّ. إن كان يهوديّا، يمكنه أن يشتري قطعاً من الأرض لا يحقّ لمواطن غير يهودي الحصول عليها. إن كان يهوديّا، وحتى إن لم يفكّر في المكوث في إسرائيل سوى لفترة مؤقّتة، وحتى إن لم يُتقن اللغة العبرية، يمكنه أن يصبح حاكم المصرف المركزي الإسرائيلي الذي لا يوظّف أيّ مواطن إسرائيلي عربي. إن كان يهوديّا، يمكنه أن يكون وزير الشؤون الخارجية وأن يعيش بصفة دائمة في إحدى المستوطنات الواقعة خارج الحدود القانونية لإسرائيل، بجوار الفلسطينيين المجرَّدين من كل حقوقهم المدنية والمحرومين السيادة على أنفسهم. إن كان المرء يهوديّا، يمكنه أن ينشئ مستوطنات على أراضٍ ليست ملكه، وأن يجول أيضاً في يهودا والسامرة وعلى الطرق الملتفّة، حيث لا يحقّ للسكان المحليين التجوال بحرّية، وهم في داخل وطنهم. إن كان يهوديّا، فلن يقف على الحواجز، ولن يتعرّض للتعذيب، ولن يفتّش أحدٌ منزله في ساعات الليل المتأخّرة، ولن يُقتل برصاصة طائشة، ولن يشاهد تدمير منزله سهواً… فكلّ هذه الأفعال التي تتراكم منذ حوالى نصف قرن خلا مخصَّصة لاستهداف العرب لا غير.
ألا يتطابق وضع اليهوديّ في دولة إسرائيل في مطلع القرن الحادي والعشرين مع البيض جنوب الولايات المتحدة في الخمسينيات أو مع الفرنسيّين في الجزائر قبل العام 1962؟ ألا يشبه وضع اليهودي في إسرائيل وضع الأفريكان (المستوطنين الأوروبيين) في جنوب أفريقيا قبل العام 1994؟
كيف يستطيع شخصٌ ليس مؤمناً متديّناً، بل إنسانوي ديموقراطي أو ليبرالي يتمتّع بحدٍّ أدنى من النزاهة، أن يستمرّ بالتعريف عن نفسه على أنّه يهودي؟ هل يرضى المتحدّر من اليهود المضطهدين أن يندرج ضمن قبيلة اليهود العلمانيين الجدد الذين ينظرون إلى إسرائيل وكأنّها ملكٌ حصريّ لهم؟ ألا يشكّل إعلان المرء أنّه يهودي في إسرائيل فعلَ انتماء إلى طبقة متميّزة تعيث حولها ظلماً لا يُحتمل؟
وما معنى أن يكون المرء يهوديّا علمانيّا خارج إسرائيل؟ هل من شرعيّة أخلاقيّة بعد في العام 2013 للموقف الذي اتخذه جوليان تويم في العام 1944، أو للموقف الذي اتخذه والداي اللذان هاما كلاجئين في أوروبا؟