كيف ننتقد المناهج التربوية السورية الجديدة؟
لعل أبرز ما أثبتته أزمة مواقع التواصل الاجتماعي حول المناهج السورية الجديدة هو الحاجة الملحّة لنا كسوريين لتعلّم أصول العمل في الشأن العام، ومنهجيات هذا العمل. وليس مستغرباً غياب هذه المهارات عن فئات كبيرة من الشعب السوري، بعد عهود طويلة من قولبة العمل في الشأن في العام وغياب النشاط السياسي الحقيقي في مرحلة ما قبل الأزمة السورية، ومن ثم سيطرة الممارسات العشوائية وغير المسؤولة منذ اندلاع الأحداث عام 2011.
من البديهي أن قضية بحجم المناهج التربوية في المدارس السورية هي قضية وطنية بامتياز، وتستحق الكثير من البحث والتدقيق والدراسة، مع ضمان أوسع مشاركة شعبية في حوار حقيقي وجدي ومفصل. إلا أن الزوبعة التي سيطرت على وسائل التواصل الاجتماعي كانت للأسف أبعد ما يكون عن نقاش أو حوار جدي وحقيقي، وأقرب إلى نشاط عاطفي هدّام لا يمكن أن تنتج منه أية نتائج إيجابية على صعيد تحسين مستوى المناهج. ولعل أبرز ما قادني إلى هذا الاستنتاج، هو زوبعة النشر دون التحقق، حيث وقع الكثيرون ضحية لبعض المنشورات التي تضمنت مقاطع من مناهج غير سورية على أنها جزء من المناهج الجديدة، ترافقت مع منشورات عاطفية تحريضية وغير عقلانية. ووصلت الأمور بالبعض إلى نشر مقطع عن قناة فضائية سورية يتحدث فيه المذيع ــ على ما يبدو ــ عن مطالبات بإقالة المسؤولين عن المناهج ومحاكمتهم، على أنه قرار صادر عن رئاسة الجمهورية السورية. من جانب آخر، خرج البعض بنبرة حنين إلى الماضي، وتطورت المسألة إلى إنتاج أعمال بصرية تترحم على أيام قصائد سليمان العيسى، التي وللمفارقة ما زالت جزءاً من المنهاج الجديد. كيف إذاً ننتقد المناهج الجديدة بطريقة منهجية تفضي إلى تحسين حقيقي يصبّ في مصلحة الأجيال السورية الجديدة؟
معايير المناهج الوطنية
من غير المنطقي أن نفترض أن الجمهور من غير المتخصصين سيقارنون المناهج الجديدة بمعايير المناهج الوطنية السورية أو المعايير العالمية من حيث المكونات الأكاديمية أو الكفاءات والمهارات المطلوبة لكل فئة عمرية، ولكن مثل هذه المقارنة ضرورية في حالة مثل المطالبة بإلغاء مادة التربية الدينية من المدارس، حيث تنطلق هذه المطالبات (التي أؤيدها شخصياً من حيث المبدأ) من آراء شخصية لا تقيس الرأي العام الوطني، كذلك فإنها تتجاوز العرف الأكاديمي السوري الذي حافظ على إلزامية مادة التربية الدينية دون احتساب نتائجها في المعدل العام. وفي هذا السياق، كان من المطلوب من أصحاب هذه الدعوات عدم الاكتفاء بشعارات براقة مثل تدريس مادة الأخلاق، بل تقديم تصور حقيقي عن مثل هذه المادة، وإجراء دراسات مقارنة سريعة على الأقل لدول العالم وتعاملها مع موضوع التعليم الديني. كذلك كان من المطلوب من أصحاب هذه الدعوات بناء حوار حقيقي مع المعارضين لها، بدل التصرف بطريقة فوقية وتقديم خطاب تعصبي وتمييزي ضد المتدينين ومؤيدي التعليم الديني. وفي الصورة الأشمل، كان ينبغي نقاش المحتوى الأكاديمي للمناهج بنحو أوفى، بدل التركيز على جوانب عاطفية محدودة.
إدارة وزارة التربية لعملية طرح المناهج الجديدة
من المطلوب عملية نقد فعلية ومنهجية لأسلوب وزارة التربية في تقديم المناهج الجديدة للجمهور العام، حيث عانى هذا الأسلوب (كما هو الحال في العمل الحكومي السوري عموماً) من غياب التواصل الفعلي بين الجمهور والجهات المعنية، سواء المجلس الوطني لتطوير المناهج أو الوزارة ذاتها.
فعلى الرغم من طرح المناهج الجديدة للرأي العام على موقع متخصص، إلا أن هذا الطرح لم يترافق مع حملة إعلامية لتشجيع الجمهور على المشاركة والتفاعل على هذا الموقع، ولم توزع الوزارة أي خبر صحفي حول الموضوع، ولا أقامت (على حد علمي المتواضع) أية لقاءات تلفزيونية أو إذاعية تشرح منهجية العمل ومكونات المناهج الجديدة قبل إصدارها، وحتى الندوة المفتوحة التي عقدتها الوزارة للمتخصصين اقتصرت على حضور «من أهل الدار»، ولم تكن مفتوحة بالمعنى الحقيقي لمشاركة المتخصصين من خارج الدائرة القريبة من فريق الوزارة. في أبجديات العمل الإعلامي، يجب على صاحب الخبر إدارة ظهور هذا الخبر في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وتقديم المكونات الأساسية للخبر إلى وسائل الإعلام للبناء عليها. للأسف، فشلت الوزارة في هذه المهمة، وتركت الفضاء الإعلامي مفتوحاً لغير الخبراء (وربما لبعض المغرضين) الذي أمطروه بالمحتوى غير الدقيق أو الملائم أو الإيجابي حول هذا الموضوع. من جانب آخر، وإذا رغبنا في الحديث عن التكتيكات الإعلامية لاحتواء الرأي العام، كان من الممكن للوزارة تجنب الكثير من النقد السلبي لو أنها أشركت الجمهور في مسألة بسيطة وغير ذات قيمة أكاديمية، مثل اختيار أغلفة الكتب، وكان القسم الأكبر من المنتقدين سينسحبون من النقد السلبي لو أنهم شعروا بدور لهم في مثل هذا التفصيل الصغير، مفسحين المجال للمتخصصين لتقديم نقد أعمق للمحتوى الأكاديمي للمناهج.
جاهزية الكادر التدريسي
يُعَدّ تأهيل الكوادر التدريسية في المدارس الحكومية السورية وتدريبها على استخدام المناهج الجديدة من أهم مسؤوليات وزارة التربية في سياق المناهج، وكان من الملحوظ غياب هذا الجانب المهم عن بساط البحث والانتقاد. انفرد موقع سناك سوري بتصريح منسوب إلى مدير المركز الوطني لتطوير المناهج دارم طباع، قال فيه إن المركز أراد «أن يكون المنهاج تفاعلياً وأن نخرج من موضوع التلقين، لذلك قمنا بإلغاء دليل المعلم ودربنا مئات المعلمين خلال الصيف على المنهاج الجديد وطرق تدريسه بحيث يصبح التعليم أكثر فعالية». وفي الحقيقة، يحمل هذا التصريح رسالة شديدة الخطورة كان من الأجدى أن تكون على رأس جهود النقد والمساءلة. فعملية تدريب المدرسين على استخدام المناهج هي مهمة أساسية وجوهرية من مهمات الوزارة، وليست مجرد مبادرة أو كرم أخلاق، ويجب أن تشمل هذه العملية جميع أفراد الكادر التدريسي دون استثناء، وليس «مئات المعلمين» فقط. كذلك فإن هذه العملية ليست بأي حال من الأحوال بديلاً من تقديم دليل معلم متكامل يكون معياراً للمعلمين على مستوى القطر. إن غياب دليل المعلم والقصور في شمول العملية التدريبية لجميع المعلمين هما مؤشران سلبيان يستحقان التحقيق والمساءلة الشعبية والرسمية، وهما أولى بهذه المساءلة من قصيدة لشاعر معارض أو نشيد موسيقي عن الفيل.
التوافق مع القدرات الفعلية للمدارس الحكومية السورية
لم تتطرق زوبعة وسائل التواصل الاجتماعي لمسألة قدرة المدارس السورية على تطبيق المناهج الجديدة، سواء من حيث الوقت اللازم لإتمام المقرر التعليمي مع الازدحام الشديد في المدارس الحكومية التي لا تزال مفتوحة، أو من حيث قدرة هذه المدارس تقنياً على تطبيق الجوانب العملية من المناهج من حيث وجود مختبرات العلوم أو وسائل الإيضاح الضرورية للمواد النظرية أو الكادر المؤهل.
قد لا يختلف اثنان على أن العملية التعليمية في سوريا تحتاج برمتها إلى إصلاح شامل، يشمل الحالة الفنية العامة للمدارس الحكومية وأهلية الكادر التدريسي في مختلف المواد، إلى جانب النظام التعليمي ذاته، ومن ثم المناهج. ولا نعلم بعد إن كان مثل هذا المشروع الإصلاحي موجوداً على أجندة الحكومة ووزارة التربية، التي يبدو أنها تكتفي حالياً بما هو في متناول يدها بشكل كامل، أي إصلاح المناهج، الذي يعتمد على فريق مركزي وقرارات وزارية بشكل أساسي، ولا تتجاوز ميزانيته الموازنة العادية للوزارة. ولكن هذا الإصلاح حتى ولو أخذ كل الانتقادات بالاعتبار وتوصل إلى مناهج عصرية وملائمة، سيبقى قاصراً دون العمل بجدية على باقي مكونات العملية التعليمية، التي يحتاج العمل عليها إلى قرار على مستوى الحكومة أولاً، ومن ثم إلى ميزانيات وخطة طويلة الأمد لا يبدو أن النية للعمل عليها تتوافر في الوقت الراهن.
صحيفة الأخبار اللبنانية