كيف ينظر رئيس أميركي إلى ملك سعودي؟ (جعفر البكلي)
جعفر البكلي
«إنه قادم… ولكنني أسأل نفسي: هل سيأتي معه بالحريم؟!».
هذه العبارة، كتبها الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور في دفتر يومياته، مساء الاثنين 28 كانون الثاني 1957، في إشارة إلى الملك سعود بن عبد العزيز، أوّل عاهل سعودي سيزور الولايات المتحدة زيارة رسمية، بعد يومين… أي في الثلاثين من كانون الثاني من ذلك العام.
وهذه العبارة، (وكل الفقرات التي سيستشهد بها هذا المقال) مدوّنة في الجزء الرابع من يوميات الرئيس ايزنهاور، ضمن ملف الشرق الأوسط. وهذا الملف محفوظ الآن ضمن مجموعة أوراق ايزنهاور الخاصّة، في المكتبة الرئاسية للمتحف الذي يحمل اسمه، في بلدة آبيلين، في ولاية كانساس.
■ ■ ■
في الغد، الثلاثاء 29 كانون الثاني1957، كتب ايزنهاور في دفتر يومياته الفقرة التالية: «اتصل بي فوستر تلفونياً (جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأميركي، في الخمسينيات) وأعلمني أنّ سعود يصرّ أن أكون أنا شخصياً من يستقبله في المطار! هذا الأمر مستحيل، ومخالفٌ للبروتوكول! لقد جرت التقاليد أن أستقبل كبار الزوار الرسميين عند مدخل البيت الأبيض. وإذا استثنينا سعود، فستصبح هذه السابقة سُنة يطالب بها كل ملك يزور أميركا!».
وفي مساء 29 كانون الثاني 1957، أضاف الرئيس في دفتر اليوميات، الفقرة التالية: «فوستر ما زال يلحّ عليّ لكي أستقبله في المطار. يقول لي: إن لم تفعل، فقد يعدل عن المجيء… لأنّ هؤلاء القوم حسّاسون ومهووسون بالمظاهر!.
ماذا عليّ أن أفعل؟! لم يعد من مفرّ سوى أن أذهب إليه!». (1)
النفاق والعناق
في ظهر يوم 30 كانون الثاني 1957، وصلت إلى مطار واشنطن ثلاث طائرات تحمل مئات من أفراد الحاشية الملكية: أمراء، وزراء، نسوة، مرافقون، صحافيون، مترجمون، أطفال، خدم، حشم، عبيد… ثمّ وصل الرئيس ايزنهاور إلى القاعة الشرفية في المطار. وأخيراً، وصلت الطائرة «كولمبيان» الخاصّة برئيس الولايات المتحدة الأميركية، والتي تُقلّ على متنها ملك السعودية، الآتي من نيويورك إلى واشنطن. ولدى وصوله، أطلقت المدافع 21 طلقة ترحيباً بالزائر المهم، الذي هبط من مدرج الطائرة ليجد الرئيس ايزنهاور بنفسه يستقبله… كاسراً بذلك كل أعراف البروتوكول الأميركي!
وحينما تقدّم الرئيس من ضيفه ليصافحه، ويقول له: «نرحّب بكم في الولايات المتحدة»، فوجئ بالملك السعودي، وقد تعلّق برقبته، وأخذ يضغط بساعديه على كتفيه، ويشبعه بالقبلات! كان مشهد العناق والقبلات الذكورية جديداً على ايزنهاور. وحتى يتملّص الرئيس الأميركي من أحضان العاهل العربي، مدّ جسمه إلى خادم سعودي نزل من وراء الملك. كان ذلك الخادم يحمل بين يديه الأمير مشهور بن الملك سعود البالغ من العمر ستة أعوام، والذي يعاني مرضَ شلل الأطفال. فلمّا رأى ايزنهاور الأمير الصغير المشلول، حاول أن يتقدّم منه ليربّت على رأسه (أو لعلّه أراد أن ينجو من ورطة أحضان أبيه!)، ثمّ التفت الرئيس إلى المليك، وتفرّس في العقال الذي يزيّن به رأسه، وقال له: «جلالة الملك، هل هذا هو تاجك؟!». وابتسم سعود بعد أن استمع إلى الترجمان، ثمّ قال لايزنهاور: «لا! حِنا ما نزيّن روسنا بتوجان… حِنا نزيّن روسنا بشعبنا!».
كانت الإدارة الأميركية قد أعدّت للملك العربي مراسم حافلة. فعلى جانبي الطريق من المطار إلى قصر الضيافة في «بلير هاوس»، رُفعت مئات الأعلام السعودية، وحرص المنظمون على أن يمرّ الموكب الملكي فوق جسر واشنطن التاريخي، ثمّ أن يدور حول نصب أبراهام لنكولن التذكاري. وأثناء مسار الموكب الملكي المكوّن من عشرات سيارات المراسم الفخمة، كان يمرّ من تحت أقواس نصر أعدّت خصّيصاً للمناسبة، وزيّنت باللونين الأخضر والأبيض… وكانت الموسيقى تعزف كامل الوقت، فلقد حشدت السلطات الأميركية 14 فرقة موسيقية على طول الطريق، لتحيّي الملك أينما يصل ركبه. وحول الموكب الضخم حشدت السلطات ألوفاً من الأميركيين ليشاهدهم الملك السعودي وهم يرحّبون به، ويرفعون لجلالته أعلام «لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله»! وأعلن المفوّضون في مقاطعة واشنطن، أن يوم الأربعاء 30 كانون الثاني1957 تقرّر رسمياً أن يطلق عليه اسم «يوم الملك سعود»، وعلى هذا الأساس، فقد قدّم روبرت ماكولان رئيس مجلس المفوضين في واشنطن للملك مفتاحاً رمزياً للعاصمة الأميركية (2). وفي مساء 30 كانون الثاني 1957 أقام الرئيس ايزنهاور مأدبة حافلة في البيت الأبيض، على شرف الملك السعودي، حضرها كبار المسؤولين الأميركيين، مثل نائب الرئيس ريتشارد نيكسون، ووزير الخارجية جون فوستر دالاس، وعدد مهم من رجال الكونغرس الأميركي، وعدد من النواب من مختلف الولايات.
في الغد، 31 كانون الثاني 1957، كتب ايزنهاور في دفتر يومياته الفقرة التالية: «سعود كان هنا، في العشاء الرسمي الذي أقمته له في البيت الأبيض… كنّا نحن بـ«الفراك» ، وكانوا هم بتلك العباءات. وكان «أولاد البترول» يحومون حول ملك السعودية. طبعاً… فلقد كانت أرباحهم هذه السنة، خيالية! (3)
لقد اختنقت من روائح السعوديين… إن رائحة البخور، لا تزال تملأ البيت الأبيض! والملك السعودي هذا، شخصية من شخصيات القرون الوسطى. هذا المخبول أعطى لخدم البيت الأبيض بقشيشاً ما بين خمسين إلى مئة دولار، لكلّ واحد منهم! ماذا سأقول؟! إنّ إعطاء البقشيش، في البيت الأبيض، ممنوع منعاً باتاً. ولكنّي اللبارحة خرستُ، وحبستُ لساني في فمي!
لا يهمّ! المهمّ أن يدخل سعود في مشروعنا للشرق الأوسط الجديد!» (4).
قطعة ضخمة من اللحم… اسمها ملك السعودية
في تلك الأيام، كان هنالك مشروع أميركي جديد يُطبَخُ للشرق الأوسط، وقد سُمّيَ «مبدأ ايزنهاور»، وقُدّم رسمياً إلى الكونغرس، في يوم 5 كانون الثاني 1957. وكان هذا المشروع يخوّل للرئيس الأميركي – ومن دون الرجوع إلى الكونغرس للحصول على تفويض منه – حق التدخل السريع بالقوة المسلحة، لحماية أي نظام حليف لأميركا في الشرق الأوسط يتعرّض لتهديد (أو خطر تهديد) من قوى الشيوعية العالمية أو من المتعاونين معها. ويخوّل المشروع للرئيس في إطار تدخله ذاك، أن يقدّم المساعدات العسكرية الضرورية لأصدقاء أميركا.
وكتب ايزنهاور في مذكراته يوم 5 كانون الثاني1957، بُعيد إقرار المشروع في الكونغرس، ما نصه: «إنّ على أيّ ديكتاتور في الشرق الأوسط أن يَحسب، منذ اليوم، حساب أي خطوة يتخذها». ثمّ أضاف: «إن ملك السعودية، هو رجلنا الوحيد الذي قد يستطيع أن يتحدّى ناصر في قيادة العالم العربي، وأن يحوّل قاطرته من اتجاه الاتحاد السوفياتي، إلى اتجاهنا». كانت استراتيجية الولايات المتحدة للشرق الأوسط، بُعيد الحرب العالمية الثانية تنحو إلى التفرّد المطلق بهذه المنطقة المهمة من العالم. وعلى هذا الأساس، كانت أميركا تعمل على سياسة عزل مزدوج لمنافسيها. فأمّا الحلفاء منهم، (بريطانيا و فرنسا) فكان العزل لهم بوراثة أدوارهم. وأمّا الخصوم (كالاتحاد السوفياتي) فكان عزلهم بشيطنتهم حتى لا يمتد تأثيرهم الشيوعي إلى منطقة يريدها الأميركيون لهم حصراً. ولقد اعتبر جمال عبد الناصر – الذي خرج لتوه ناجياً من عدوان ثلاثي دبّره الحليفان المنافسان – امتداداً لأولئك الخصوم (السوفيات) الذين يُراد شيطنتهم، وعزلهم.
وأمّا تعويل الأميركيين في خططهم على السعودية، فذلك بحكم ما لها من نفوذ ديني يمكن أن يجيّر في حملة ضارية ضد «الإلحاد الشيوعي». وبحكم ما لها من شبكة علاقات يمكن أن تستخدم في نسج تحالفات إقليمية جديدة. وبحكم ما لها من أموال يمكن أن تشتري ولاءات هنا وهناك. وبحكم ما لها من موقع استراتيجي يمكن أن ينافس موقع مصر في العالم العربي.
ولم يخيّب الملك السعودي آمال الأميركيين. فلقد مضى بعد زيارته التاريخية للبيت الأبيض، يسعى بهمّة ونشاط لتقويض مركز عبد الناصر في مصر والعالم العربي. وكان من أوائل ما صنعه الملك تمويله لمرتضى المراغي، وزير الداخلية في أواخر عهد الملك فاروق، حتى يدبّر انقلاباً عسكرياً في مصر. ولكن أحد الضباط المصريين الذين كُلفوا بتدبير الانقلاب، وهو العقيد عصام خليل، أفشى بما طُلِبَ منه للواء (وقتها) عبد الحكيم عامر. وسَلم له المبالغ التي دفعت إليه (16.200 جنيه استرليني). وأوصلت التحقيقات في هذه المسألة إلى حقيقة من يقف خلفها. ولم يكن هذا الذي وراء المؤامرة إلا ملك السعودية بنفسه! ولم ترد القاهرة أن تقطع شعرة معاوية مع الرياض، فتكتمت في بداية الأمر عن موضوع سعود بطلب ورجاء من الشيخ يوسف ياسين مستشار الملك، ثمّ بمسعى من أخيه فيصل. ولكن ملك السعودية عوض أن ينكفأ عن مساعيه التآمرية، زاد في مساعيه تلك وصعّدها.
ولقد تهيأ للملك السعودي – وهو يراقب، في ذلك الوقت، توجس الغرب وهلع حِلفه في المنطقة، من الاستعدادات التي تحضّرُ حثيثاً لإنجاز وحدة بين مصر وسوريا، في أوائل سنة 1958 – أنه قادر على تحطيم هذا الحلم، عبر استخدامه للنقود، في رشوة جديدة.
وكان الهدف الذي تطلعت إليه عينا الملك السعودي الآن، هو عبد الحميد السرّاج، رئيس المخابرات العسكرية في سوريا (المعروفة باسم «الشعبة الثانية»). ولقد بعث الملكُ للسرّاج صهرَه أسعد إبراهيم، وعرَض عليه مبلغ مئة مليون جنيه استرليني، إن هو قبل بالقيام بانقلاب يحول دون حدوث الوحدة بين سوريا ومصر. وكان العرض أن يدفع السعوديون للسرّاج عشرين مليون جنيه استرليني مقدماً، على أن يُدفع الباقي بعد نجاح العملية. ولكي يتشجع السرّاج أكثر، فقد أعلمه وسيط الملك السعودي أنّ السفير الأميركي في دمشق مستعد لإعلان اعتراف بلاده بالنظام الجديد، حال إعلانه. كذلك إن الملك يضمن اعتراف كل البلدان الصديقة لأميركا، بالوضع الجديد.
وطلب السرّاج من أسعد إبراهيم (والد زوجة الملك سعود، أم خالد) أن يمنحه هذا المال الذي سيساعده في تنفيذ الخطة. وغادر أسعد إلى السعودية على متن طائرة ملكية خاصة. ثم عاد يوم 20 شباط 1958، (أي قبل يوم واحد من الاستفتاء على الوحدة) وجاء معه بـ 3 شيكات: الأول بمبلغ مليون جنيه استرليني تحت رقم52/85902، والثاني بمبلغ 700 ألف جنيه تحت رقم تحت رقم58/85903، والثالث بمبلغ 200 ألف جنيه تحت رقم 59/85904. وكانت كل هذه الشيكات مسحوبة من البنك العربي المحدود في الرياض، على بنك ميدلاند في لندن، وتدفع لحامله. ثمّ أعلم أسعد إبراهيم السرّاجَ ضاحكاً، بأنه قد خصَمَ من المليوني جنيه استرليني التي بعثها الملك إليه، مئة ألف جنيه، باعتبارها عمولته.
ولم ينتظر السرّاج حتى ينبلج النهار، فقد تحرّك فوراً بصحبة بعض ضباطه الموثوقين، واستدعوا واصف كمال مدير فرع البنك العربي المحدود في دمشق ونائبه وبعض معاونيه، لكي يشرفوا مع أول ساعات الصباح على عملية سحب المبالغ من بنك ميدلاند برقيا، وتحويلها إلى حساب جديد باسم السرّاج، تمّ فتحه في سويسرا.
وفي يوم 24 شباط 1958 (بعد يومين من إعلان نتيجة الاستفتاء على الوحدة) جاء عبد الناصر إلى دمشق. وكان أول شيء فعله السرّاج هو أن أعلمه بكل تفاصيل مؤامرة الملك السعودي، وقدّم له مجموعة لصور الشيكات، والأذون بالدفع المتعلقة بها. ثمّ زاد السرّاج فأخبر عبد الناصر بقصة مؤامرة أخرى أعدّها الملك سعود، واعترف بتفاصيلها أسعد إبراهيم، بعد أن قبض عليه. وتتعلق برشوة أحد طيّاري سلاح الجو السوري، بنصف مليون جنيه، حتى يقوم بإسقاط طائرة عبد الناصر في الجوّ قبل وصوله إلى دمشق، ومن ثمّ يهرب إلى تركيا.
في الغد، خطب عبد الناصر أمام مئات الآلاف من الجماهير المحتشدة في دمشق، والتي جاءت من كل أنحاء سوريا، لتستمع إلى خطابه الأول، بعد إتمام الوحدة العربية. وفي ذلك اليوم المشهود، كشف الرئيس كل تفاصيل مؤامرات ملك السعودية ضد الوحدة العربية: بالأدلة، والشهود، والوثائق الدامغة… وسط ذهول الملايين من المنصتين إليه في الميادين، ووسط ذهول الملايين من المنصتين إليه في كامل أرجاء الوطن العربي. لقد كان الناس من المحيط إلى الخليج، يتجمعون في كل مكان ليسمعوا مباشرة وبانتباه، محطات الإذاعة التي تنقل خطاب الوحدة مباشرة، من دمشق. ولم يكن يدور في خلد أحد من العرب أن هذا الخطاب الذي ظلوا يتطلعون إليه بشغف، سيعرّي وجوهاً وعروشاً وأنظمة على الملأ.
وبُعيد انكشاف مؤامرة الملك سعود، وافتضاح مخططه لإجهاض الوحدة المصرية – السورية، انفجر سخط عارم بين أمراء العائلة المالكة السعودية، على سياسات الملك الغبية. وأدّت الفضيحة المدوية، في نهاية المطاف، إلى سحب صلاحيات السلطة من يد سعود، ومنحها إلى ولي عهده الأمير فيصل بن عبد العزيز.
وفي واشنطن، كان تعليق الرئيس الأميركي إيزنهاور، على كل هذا الذي جرى، وفقاً لرواية مساعده السياسي في البيت الأبيض شيرمان آدامز، كالتالي: «لا بد أن نسلّم أن ابن الـ**** هذا، زعيم حقيقي لديه الأعصاب ولديه الكفاءة… والخسارة الحقيقية أنه لا يقف في صفنا، بينما نجد في صفنا قطعة ضخمة من اللحم اسمها سعود!»(5).
علامة الله
بعد أكثر من خمسين عاماً، عمّا دوّنه ايزنهاور في يومياته، متهكماً على سعود، تحدّث جورج دبليو بوش في كتابه «نقاط القرار»، الذي صدر في تشرين الأول 2010، غامزاً من الاضطراب في شخصية الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز (ولي العهد آنذاك) عندما زار الولايات المتحدة في 25 نيسان 2002، واستضافه بوش في مزرعته في كراوفورد بولاية تكساس.
قال بوش في كتابه إنّ عبد الله كان متوتراً بسبب إهمال الإسرائيليين الردّ على مبادرته للسلام التي طرحها قبل شهر، في قمة بيروت. وأنه طلب منه أوّل ما التقاه أن «يُخرِجَ الخنزيرَ من رام الله». (يقصد بالخنزير شارون الذي احتل الضفة في نيسان 2002، وحاصر عرفات في مقر المقاطعة). واستغرب عبد الله لماذا لا يمسك رئيس الولايات المتحدة الآن بالهاتف، ويأمر شارون بالانسحاب فوراً. وأجابه بوش أنه لا يستطيع أن يمارس الدبلوماسية بهذه الطريقة. وهنا ازداد غضب عبد الله وحنقه، وقرّر الانسحاب من الاجتماع فوراً.
لقد كان عبد الله يعتقد حينئذ أنّ بإمكان بوش (ملك أميركا) أن يمسك بالهاتف، ويزعق في أذن الخنزير شارون، ويأمره فوراً بالخروج من رام الله. وحينها لن يستطيع شارون عصيان أمر «ملك أميركا»، وسينفذ الأوامر صاغراً خسيئاً! وبما أن بوش يتهرّب من إصدار توجيهاته هذه إلى شارون، فذلك لا يعني سوى أنه يستهين بولي عهد السعودية. وعليه فلنغادر المكان، فلا جدوى حينئذ من أي كلام!
وقرّر بوش أن يحتوي مزاجية ضيفه العربي. وفكّر أن يلعب على «كارت» الدين، مراهناً على بساطة عقل عبد الله، وأن موضوع الدين لا شك سيثير اهتمام أمير سعودي. وهكذا أخذ يشرح لضيفه الوهابي أهمية دور يسوع في حياته، متمنياً أن هذا الوعظ ربما يستهوي شهية عبد الله الدينية. ولكن ولي العهد السعودي – بحسب ما ذكره بوش- لم يكن لديه أيّ مزاج للمشاركة في مثل هذه الأحاديث.
ولم يتبق لبوش حتى يكسب ودّ سيد السعودية، في أول لقاء لهما مع بعضهما، سوى التكلم معه عن الحيوانات. وكان مساعدو الرئيس قد أخبروه عن مدى ولع عبد الله بالدواب. واقترح الرئيسُ الأميركي أن يصطحب الأميرَ في جولة، في مزرعته.
هز عبد الله رأسه مستجيباً. وبعد دقائق قليلة كان ولي العهد بثيابه الفضفاضة يصعد إلى سيارة «فورد زاد50»، برفقة مترجم وزارة الخارجية الأميركية جمال هلال. وبدأ بوش يشرح لعبد الله أنواع الأشجار في مزرعته، وأنواع الحشائش البرية التي زرعتها زوجته لورا. ويشير إلى الأبقار التي كانت ترعى. وكان ولي العهد جالساً صامتاً… «ولم أكن قد توصلت إلى شيء كثير معه»، يقول بوش.
ثم يضيف في روايته: «وصلنا إلى جزء بعيد من المزرعة، وكانت هناك أنثى ديك رومي وحيدة تقف في الطريق، فأوقفت السيارة، لكي لا أدهسها. ولكن الطائر لم يتحرك. وسألني عبد الله قائلاً: ما هذا؟ فقلت له: «إنه ديك رومي. وأضفتُ: إن الرئيس بنجامين فرانكلين كان يحب الديك الرومي حتى إنه أراد أن يجعله رمز أميركا القومي… وفجأة شعرت بيد ولي العهد تمسك بي. وبدأ يهتف مردداً: أخي، هذه علامة من الله… هذه علامة من الله… هذا فأل طيب، هذا فأل طيب!».
ويقول بوش: «لم أفهم منه شيئا أبداً! ما الذي أصابه؟! وما أهمية الديك الرومي؟ ولماذا هو علامة الله عنده؟! ولكني اندهشت لأن توتره السابق معي بدأ فجأة يذوب. وعندما عدنا إلى المنزل، كان أعواننا مندهشين عندما قلنا لهم إننا مستعدون لإكمال المحادثات».
ويضيف: «في الفترة التي تبقت من رئاستي كانت علاقتي مع ولي العهد وثيقة للغاية. صار هو ملكاً بعد فترة قصيرة من ذلك الزمن… ولم يحدث قط أن رأيت أنثى الديك الرومي التي ألهمته الوحي في ذلك الجزء من المزرعة. ولم أرها أبداً منذ ذلك الوقت».
هوامش ومراجع
(1) جُمِعَ بعض من مذكرات الرئيس دوايت ايزنهاور، في كتاب طبع في أميركا سنة 1984. وقد رتبه وجمعه وعلق عليه المؤرخ الأميركي ستيفن أمبروز. ولكن نصوص اليوميات الكاملة التي كتبها ايزنهاور لم تنشر كلها، ربما لضخامتها أو لحساسية محتواها.
واليوميات، مدونة في مجموعة من الكراسات بخط يد الرئيس الأميركي، ومحفوظة ضمن مجموعة الأوراق الخاصة به، في ملفات أحدها بعنوان الشرق الأوسط، الصندوق رقم 2، في مكتبة ايزنهاور الرئاسية بآبيلين، في كانساس. ويمكن لمن يريد الاطلاع، أو تصوير نسخ منها، إذا شاء، بموجب قانون الحق في تداول المعلومات في الولايات المتحدة، أن يفعل ذلك. والمقاطع التي كتبها ايزنهاور، واعتمدتها في المقال لم تنشر مثلاً في كتاب أمبروز، ولكن الصحافي المصري محمد حسنين هيكل أمكنه أن يطلع عليها، وأن يضمّنها في كتابيه «ملفات السويس» (نشر 1986)، و في كتاب «سنوات الغليان» (نشر 1988) أيضاً.
(2) بالنسبة إلى تفاصيل استقبال سعود في واشنطن، يمكن العودة إلى كتاب محمد السلاح «سعود في أمريكا».
(3) يقصد ايزنهاور بقوله كنا نحن بـ«الفراك»، البدلات التي يلبسها رجال الأرستفراطبة في حفلاتهم الرسمية ، وأما العباءات التي كان يلبسها السعوديون ، فجمع لعباءة ، وهي الرداء الذي يرتديه شيوخ العرب فوق دشداشاتهم. أمّا قوله «كان أولاد البترول يجرون من حول ملك السعودية»، وقد استعمل ايزنهاور عبارة : ( The children of oil ) فإن الرئيس الأميركي كان يقصد: رؤساء مجالس إدارات شركات البترول في أميركا التي كانت أرباح شركاتهم المحتكرة للنفط السعودي خيالية في تلك السنوات.
(4) تعليقات ايزنهاور التي تسخر من الملك سعود، مقتبسة مما أورده محمد حسنين هيكل في كتابه «ملفات السويس»، الطبعة الأولى 1986، مركز الأهرام للترجمة والنشر ص. 603 – 604.
(5) كتاب «ملفات السويس»، محمد حسنين هيكل، ص 504