“كيميا” تفكك الصورة النمطية لجلال الدين الرومي

 

لم يكن ورود وليد علاء الدين نبع التصوف في روايته “كيميا” (القاهرة 2019) بحثا عن كرامات تفيض بالعجائبية على روايته، أو جريا وراء أسطورة، فلو كان ذلك هدفه لأمدته المراجع العديدة التي تتناول سيرة مولانا بما يفي بالحاجة، على الرغم من أن كثيرين عالجوا سيرة جلال الدين الرومي روائيا، وقد أشارت رواية “كيميا” إلى معالجتين اثنتين واحدة هي الأكثر شهرة، للروائية التركية أليف شفق في روايتها “قواعد العشق الأربعون”، والثانية للكاتبة البريطانية المولودة في فرنسا مورل مفروي بكتابة روايتها “بنت مولانا”، وهي التي لفتت انتباه وليد علاء الدين إلى شخصية “كيميا” فآثر أن يلاحق طيف كيميا الفتاة التي نسيها الجميع، ليرفع عنها ظلما أوقعه عليها العاشق الأكبر.

وكيميا فتاة فقيرة من بلخ التي نشأ بها الرومي، أمها كانت زرادشتية ثم اعتنقت المسيحية، وأبوها كان مسلما خشي أن تغير أمها دينها بعد وفاته فألحقها بالشيخ جلال الدين الذي غادر بلخ إلى قونية، فعاملها كابنته وأوصى أصغر أبنائه – علاء الدين ولد – بها خيرا، مؤكدا على أن يعاملها كأخته، لكن الشيخ أهداها فيما بعد إلى مريده شمس التبريزي الذي كان يكبرها بأكثر من خمسين عاما، ليدفعه إلى البقاء في قونية، وقد انطفأت كيميا سريعا وغادرت الحياة، إذ كانت محبة لعلاء الدين ولد ابن مولانا، وبعد موتها رحل التبريزي عن قونية، وقيل إنه قُتل وأن علاء الدين ولد هو من قتله رفضا للتأثير الكبير الذي كان يمارسه على مولانا وللتغيير الذي أحدثه في حياة الرومي، وأيضا انتقاما لكيميا.

يفتتح الكاتب روايته بمفتتحين كاشفين، أولهما مقتبس من جلال الدين الرومي، يقول نصه: “الليلة الماضية في المنام، رأيت شيخا في حيّ العشق، أشار إليَّ بيده: اعزمْ على الالتحاق بنا”، وقد أملاه وهو يعاني سكرات الموت، على أحد مريديه، فكان آخر ما نظم جلال الدين أما الثاني فهو للكاتب نفسه، يقول “ولكنني قررت قبل ذلك، أن أصنع ثقبا في الجدار الغليظ، لتحلق روح كيميا”.

هكذا يهيىء الروائي أذهان قرائه إلى أمور تكشف عن جوهر الرواية وهي في طور التشكل، أولا دور المنام أو الحلم في حياة الراوي وفي بناء الرواية، ثم دعوة مولانا له للحاق به، ولعل تكليف المركز العربي للأدب الجغرافي، ارتياد الآفاق له وسفره إلى تركيا من أجل المشاركة متابعة الاحتفالات بمرور ثمانمائة عام على وفاة مولانا جلال الدين الرومي، تمثل تجليا لتلك الدعوة، وقد قام الكاتب (الراوي) بتغيير الغرض من الدعوة لتصبح كشفا عن شخصية كيميا، فلم يجد بسهولة وسيلة مواصلات تنقله بسرعة إلى قونية، بينما تكفل الحلم بتنفيذ قراره بصنع ثقب في الجدار تنفذ منه روح كيميا، وكان الثقب مصدرا لضوء كان كافيا ليشير للرائي إلى الشرخ، الذي بدا له كجرح على وشك الالتئام، ونافذة في جسد حي.

هذه هي الخطوط الثلاثة الرئيسة التي اعتمد الكاتب عليها في غزل نسيج نصه القائم على تذويب الحدود بين الواقعي والتاريخي من جهة، عبر رحلتين الأولى هي  رحلته الحقيقية إلى تركيا، أما الثانية فهي رحلة تقصي شخصية كيميا وقبرها في المصادر التاريخية، أو بين التخييلي والتسجيلي من جهة أخرى وذلك باستدعاء تفاصيل المهمة الصحفية المكلف بها،  واستمراره في إرسال متابعاته ومشاهداته عبر تقارير متوالية تمثل الجانب التسجيلي في الرواية، باستخدامها لآليات أدب الرحلة وأيضا بذكرها لأسماء حقيقية مثل الشاعر نوري الجراح الذي كان يتلقى تقاريره الستة المتوالية، وكان عنوانها كلها “الطريق إلى مولانا”، أو أسماء أصدقائه الذين ساعدوه في ترجمة الرسالة المكتوبة باللغة العثمانية القديمة أو أتاحوا له معلومات عن كيميا.

تميز السرد في رواية “كيميا” بقدرته على نسج مشاهد يمتزج فيها الواقع بالخيال، ويتداخل فيها الاستشراف بالاتكاء على الرمز، وقد اعتمد المؤلف كثيرا على الحلم كوسيلة لبناء تلك المشاهد،  التي مارست تأثيرا قويا على قارئها مكونة انطباعا إيجابيا لديه أساسه الصدق الفني الكبير في سرد الإحداث والتمهيد لها، فالمشهد الافتتاحي للرواية يبدأ بقول الراوي “استيقظت على برودة تسري في أطرافي. بصعوبة نجحت في تحريك ذراعي اليمنى متحسسا ساقي.

انتابني ذعر من عدم إحساسي بوجودهما، وازددت فزعا لما طقطق جذعي كالحطب اليابس حين هممت برفعه”، نكتشف فيما بعد أن تلك البرودة كانت حلما، فالجو ليس باردا والراوي أحد المصابين بما يسمى الحلم الصافي، الذي تقدم الرواية معلومات عنه كأحد تجلياتها كرواية معرفية، كما أن هذا المدخل يشكل حيلة فنية تتبعها الرواية لإدخال الروائي في رحلة البحث عن كيميا وللتعرف على قرينه علاء الدين ولد. وكان مبررا للملمح الغرائبي الذي لم تخل منه الرواية.

لم يقم وليد علاء الدين بإهالة التراب على وجه مولانا، ولم يقم بتكسير صنمه، فالصورة الشائعة لجلال الدين الرومي هي صورته النمطية في أذهان مريديه، حولوه إلى صنم لم يعبده الروائي بل بحث خلف تفاصيل الصورة المرسومة عن ملامح الإنسان الحقيقي. صورة يقبلها عقل الكاتب المنحاز للإنسان.

وقد تضمن النص أكثر من إشارة إلى قناعات الكاتب تلك، فحينما استدعى المقام ذكر انتصار المصريين على الأتراك ذكر أنه كان يقرأ وقلبه معلق بالفلاحين المصريين الذين جندهم إبراهيم باشا وحملهم من حقولهم وأحضان أسرهم للقتال في برد مدينة تبعد عنهم آلاف الأميال، كذلك أشار النص إلى رواية كتيبة سوداء للمنسي قنديل التي تحدثت عن المصريين والسودانيين الذين تم اقتيادهم إلى الحرب في المكسيك.

هذا الموقف يفسر غضبه من جلال الدين بسبب موقفه من كيميا التي قال عنها ابنته، ثم أهداها للتبريزي حتى لا يرحل مبتعدا عنه، مجهضا قصة حب عفيف نشأ بينها وبين ابنه الأصغر علاء الدين ولد، ومستجيبا لوشاية أو غيرة زوجته الثانية كيرا خاتون، فكيف لشاعر حقيقي وقطب صوفي أن يفعل ذلك؟ ولماذا لم يزوج شمس من ابنته الحقيقية مليكة خاتون، ولماذا خلت أشعاره من ذكر كيميا بعد موتها، لماذا عاشت نكرة وماتت مجهولة القبر؟

ويجيب بأنها “كانت إنسانا، لذا سقطت في بحر الصمت ولم يحدث سقوطها سوى فرقعة صغيرة لم يسمعها أحد على وقع معاول بناء الأسطورة”، تلك الأسطورة تم بناؤها من كلمات الرومي التي وارى جميلها قبيحها، أما كيميا فكانت مجرد كلمة واحدة، لا بلاغة فيها ولا مواربة، فالمجد للكلمات ولا قيمة للإنسان. (وكالة الصحافة العربية)

 

 

ميدل إيست أون لاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى