اشتغلت على الحوار الصحفي طويلاً، بحكم عملي في الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية، وثمة حواراتٌ أجريتُها في حياتي المهنية مع قامات كبيرة وكتاب وشعراء لا أستطيع إحصاءها، وبالمقابل هناك عددٌ قليلٌ من الحوارات أجريَتْ معي، قليلة لأني لم أكن أرغب كثيرا في أن أكون أنا موضوع الحوار، أو ربما لأنني لا أصلح لأن أكون ضيفاً قادراً على تقديم نفسه بشكل ناجح للناس في برنامج أو حوار !
وقعت في الفخ، عندما حللت ضيفاً على برنامج تلفزيوني حواري يقوم بإعداده وتقديمه الكاتب الروائي الكبير حسن حميد، الذي تمكن من شغل موقع متميز في الرواية العربية عامة وفي الرواية الفلسطينية بشكل خاص، وقد ترددت كثيرا وأنا أفكر في تلبية دعوة الصديق علي العقباني الذي يقوم بإخراج البرنامج للمشاركة فيه، فكيف يكون السائل هو الدكتور حسن حميد، وكيف يمكن لي أن أنجح في الإجابة على أسئلته، وأنا من قرائه ومتابعيه وأتعلم منه منذ أكثر من ثلاثين عاما !
وراجعت ذاكرتي، تُرى كم قرأت للدكتور حسن حميد ، من القصة إلى الرواية ، إلى النقد؟ وهل أنا قادر على المواجهة عندمت تنهال أسئلته علي ؟
تذكرتُ قصته (حمى المرمريتي) التي شغلتني كثيراً في الثمانينيات من القرن الماضي، واستعدتُ رواياته الكثيرة (جسر بنات يعقوب، تعالي نطير أوراق الخريف ، مدينة الله ، الكراكي ..) ، تذكرتُ كتاباته النقدية عن فوكنر وغسان كنفاني وديستويفسكي وإدغار ألان بو وغيرهم..
هذا يعني أنني سأكون في ورطة عند كل منعطف !
وفي الأستوديو، تقصدّتُ أن لا أصطحب معي سوى كتاب واحد جديد من كتبي، لكي لا أبدو مدعياً أمام كاتب كبير، لكنه بعد أن قلّب الكتاب بيديه ووضعه جانباً، فتح حواراً جذاباً ساحراً حول المنتج الثقافي الذي اشتغلت عليه، وكأنه يحفظني عن ظهر قلب، واستجرني بسلاسة إلى تجارب لم أكن أفكر في الحديث عنها، وبدا الحوار شيقاً، فذهب إلى تجارب بيروت وفلسطين ودمشق، وتشابكت الذكريات مع الأدب مع الصحافة، وكان من الصعب إنهاء الحديث خلال الوقت المتاح للبرنامج .
أوقعني الكاتب الدكتور حسن حميد بأفخاخ التجربة الحياتية التي كشفت تلقائيا أنني أكتب القصة والقصة القصيرة جدا والرواية، وأشتغل على السيناريو ، بحيث رأيت نفسي وقد حملت أكثر من بطيخة بيد واحدة ، أو كأنني كاتب يجرب أكثر مما يؤطر نفسه في نوع أدبي، وهي مشكلة موجودة عندنا، فأكثرنا يكتب في المسرح والقصة والرواية والنقد ، وأكثرنا أضاع الهدف، فلم يصل إلى هوية الكتابة الحقيقية عنده ، فهل هو مسرحي؟ روائي؟ كاتب قصة؟ أم ناقد ؟
هذه الأفخاخ ، جعلتني أكثر ثقة في التحدث عن الحياة والقضايا التي اشتغلت من أجلها، بل وجعلت ترددي في المواجهة معه يستند إلى عمق هو أراده أن يكون قوياً، عندما كان علي أن أحكي عن تجربتي مع فلسطين وتعرفي على طاولة غسان كنفاني وأحدث توأمة مع الفنان الراحل ناجي العلي فأشرب الشاي معه وأبحث عن لوحة تناسب مقالي الأسبوعي في بيروت الذي لم أكم أذيله باسمي، ثم أنتظر منه أن يحكي ، فلا يحكي إلا القليل ..
توهجت الذاكرة ، فكشفت كم هي عميقة تلك القضايا التي كنا نحملها في قلوبنا، ورأيته كمحاور قدير، ينعطف عبر كل هذه التفاصيل إلى الكتابة ليجعلني أحكي عن تجربتي الروائية الأخيرة المتعلقة بروايو (حكايات حارة المؤيد ــ الجن والعاشقات)، ثم يختتم أسئلته بالسؤال عن خياري الأخير، هل أنا روائي أم ناقد أم كاتب قصة أم صحافي ، وكان الفخ قد أعِدّ جيداَ فأجبته أن خياري هو الصحافة !
وسريعاً تراجعت كل أحلامي في تقديم رواية جيدة، وفي نشر مجموعة قصصية متميزة، لأرى نفسي أعودُ طفلاً صغيراً يجلس على حافة الرصيف ويستأجر المجلات والصحف من البائع القريب من بيتي، فأقرأ مقالات محمد حسنين هيكل وأنا في الابتدائية، وأتابع وقائع جعبة سعيد فريحة في صحيفة الأنوار وأنا في الإعدادية، وأتعرف في الثانوية على كتابات توفيق الحكيم ويوسف السباعي ونجيب محفوظ و..غسان كنفاني .
كل ذلك جعلني أعود لزاوية كتبتها ذات يوم بعنوان :
غضبت عليّ أمي فصرت صحفياً !