لا إقامة إلا في الشعر
أدب الرسائل من الفنون الأدبية المميزة التي كان لها صدى واسع الانتشار في القرن العشرين، وعلى الرغم من تقدم وسائل التواصل الاجتماعي، فإن أدب المراسلة لا يزال يحتل مكانة بارزة بين الآداب الأخرى كالشعر والرواية، ولا يزال هناك قراء كثر شغوفين بهذا اللون الأدبي لما يتميز به من موضوعية ومصداقية، وذلك لأنَّ هذا الشكل من الكتابة يكشفُ جانباً حميمياً من حياة الكتاب إضافة إلى أنَّ كثيراً من المشاهير لم يترددوا في البوح بأسرارهم من خلال ما كتبوه في الرسائل. وهذا ما نلاحظه في كتاب “رسائل الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك إلى معالجها النفسي ليون أوستروف” الصادر عن دار المدى عام 2019 .
إن أهم ما يميز هذه الرسائل هو الصراحة بين الشاعرة ومعالجها النفسي ليون الذي كان معالجها النفسي الأول، وقد لجأت إليه أليخاندرا في منتصف عام 1954 وقد دام العلاج أكثر من عام بقليل، وقد تحولت العلاقة خلال هذه السنة من علاقة طبيب بمريضة إلى علاقة صداقة، وما يعمق العلاقة بين الاثنين هو الإهتمام المشترك بالأدب والفلسفة، ومن الواضح أنَّ أوستروف كان يمثل بالنسبة إلى أليخاندرا شخصية أبوية محتوية، كانت تلوذ به كلما ضاق عليها الخناق واشتدت أزمتها الصحية.
تسردُ أليخاندرا في رسائلها تفاصيل حياتها وأيامها الباريسية مشيرةً إلى مكونات الأمكنة التي أقامت فيها إذ انعكست فوضويتها في مكان إقامتها، وعبرت عن سئمها من التذبذب في عملها الروتيني في مجلة “دفاتر مؤتمر حرية الثقافة” طبعاً عملها بهذا المنبر الثقافي وفّر لها فرصة العيش في باريس والبقاء فيها؛ وتواصلت هناك مع العديد من الكتاب والشعراء من أميركا اللاتينية مثل أوكتافيو باث، الذي كتب مقدمة ديوانها الثاني، وقيصر باييخو (شاعر من البيرو، يعد من كبار شعراء الإسبانية، أقام في فرنسا وانتحر في شقته الباريسية).
كثيراً ما تأملت أليخاندرا في المعاناة التي سببتها لها بعض العلاقات القديمة، وما خلفت لديها العلاقات الغرامية المستحيلة والرابطة العائلية المعقدة من آلام نفسية مبرحة، وبالتالي تعقدت مشكلاتها الصحية، ولا تتجاهل في هذا الصدد الإشارة إلى لقائها بسيمون دو بوفوار والراقصة ثيسار باييخو .
كان ليون أوستروف شديد الحساسية حيال مواصفات مريضته الجمالية، مقاطع كثيرة من رسائله تؤيد المعنى العميق الذي يوليه لعملها الشعري.
“لست متأكداً من أنني حللتها نفسياً دائماً، لكنني أعلم أنها منحتني إحساس الشاعر دائماً “.
جمعت الرسائل أندريا أوستروف ابنة الراحل، وتذكر هنا سبب نشر الرسائل هو بمثابة رد للاعتبار للشاعرة ومعالجها النفسي، وعدد هذه الرسائل 21 رسالة أرسلتها صاحبة البراءة الأخيرة إلى معالجها النفسي عندما كانت تقيم في باريس بين عامي 1960 و1964. ونلاحظ في سياق الكلام المرسل أن أليخاندرا سافرت إلى باريس بناءً على نصيحة من معالجها النفسي، ومن المؤسف أنه لم يبق من جوابات ليون أوستروف غير خمس رسائل، وإذا طالعنا ما كتبه فنلاحظ أنه كان يشجعها على ضرورة التحلي بالواقعية والإحتفاء بالإنجازات الأدبية.
يُخاطبُ أليخاندرا قائلاً: “إذا أصبحت مخاوفك ومُعاناتُك فيما بعد كلماتٍ جميلة، فعليك أن تفرحي لأنَّ الكلمات الجميلة لا تولدُ إلا حين يدفعها شيء في داخلنا، جميل أو رهيب”.
“تعلمي أن ما يهم، في النهاية، هو أن تعرفي أن هناك اشخاصاً يحبونك ويدركون ما أنتِ قادرة على إنجازه بناءً على ما فعلتِ.”
وفي هذه الرسائل يمكن التعرف على الكثير من الهواجس وحالات القلق التي عذبت الشاعرة طوال حياتها، وما يزيد من أهمية هذه الرسائل هو النبرة الحميمية التي تنطوي على اعتراف ومناجاة قريبة جداً من النفس السائد في الكثير من يومياتها.
“يتضاعف عذابي أمام عجزي عن بناء فكرة ما. صار نشاطي الذهني يقتصر على تتابع لصورٍ مترنحة، ذكريات غير منتظمة، كلمات تنفلت حين أحاول الأمساك بها ” .
“رباه لا اريد أن أترك مركونة في الجنون، وإلا أن أذهب إلى حيث أردتُ الذهاب منذُ أبصرت النور، ولا أن يلقى بي في الهاوية التي أحبها، ولا أن أموت من هذا العالم الذي أكرهه، ولا أن أغمض عيني على ما أبغضه، ولا أن أترك سكناي في ما هو مروع ومريع “.
من الواضح بالتأسيس على مارأيناه، أننا أمام كتابة تتخطى حدود الأنواع الأدبية، رسالة ، يوميات، شعر، شعر نثري .
تعرض صاحبة “البراءة الأخيرة” مشكلتها الرئيسة أمام معالجها النفسي فقد واجهت أليخاندرا إشكالية الإختيار بين نمط حياة مكرسة تماماً للإبداع الجمالي أو نمط حياة “راشدة وصحية”، ومن المعلوم أنها ذهبت نحو الإختيار الأول، فإذا كانت ثوابت (الحالة الطبيعية) المتصلة بالهوية تمثل ضمانة للإستقرار المهني، الإقتصادي، العاطفي، العائلي، الجنسي، السكني، فإن إنتشار النزعة الذاتية الفنية تتطلب عادة شروطاً مختلفة عن تلك التي وضعتها الأجهزة الثقافية لـ (التثبيت) ويصبح المطلب المجتمعي (كسب العيش)، (ممثلاً هنا بالحاجة إلى الحصول على عمل يضمن ذلك).
“لكني أتمنى أن لا أضيع وقتي في عمل مطول، وهو ما سيحتم علي ربما أن اقوم به. أريد أن يكون وقتي ملكي، لأضيعه، ولأصنع به ما أصنعه عادةً: لا شيء “.
خبرت أليخاندرا عذابات الحب ونشوته ومحدداته، لكنها لم تذق طعم السعادة إلا نادراً. تجربتها العاطفية مثخنة بالحزن، حيث تشكل نبعاً آخر لألمها الحميم. لم يكن في إمكانها أن تحب غير المستحيل، وهو دائم الهروب منها. يمتصها كلياً وجه المحبوب، أنثوياً كان أم ذكرياً، يمتص طاقتها النفسية ويحولها إلى عبدة مطيعة.
السؤال الدائم الذي كان يتكرر في رسائلها، هو كيف أحيا؟ كيف يمكن الجمع بين الحياة والشعر في جسد واحد من دون أن يضعف هذا الجسد بسبب تلك الاختيارات المتطرفة؟ كيف تقاوم تجربة الفوضى والتشظي وتشتيت الذات؟ كيف يمكن التغلب على الصمت الناتج عن التخلي عن ضيافة اللغة اليومية لنسقط من سفوح الكلمة الجديدة والمجهولة؟ كيف نبقى في المنفى النهائي؟ حياة وممات، نظام وفوضى، ليل ونهار، عمل وشعر، راحة وأرق، صحة وجنون، إنها بعض التوترات الباعثة على الجنون التي مرت بحياة من لم تختر دائماً غير (الوصول إلى الأعماق) وهو ما كان مكتوباً في لوحة عملها يوم وجدت ميتة، فلم تعش صاحبة المغامرات الضائعة سوى 36 عاماً فقد انتحرت في شقتها في بوينس آيرس عام 1972 .
ميدل إيست أون لاين