لا التاريخ ولا السياسة
أدونيس أحد رموزنا الثقافية والشعرية والفكرية، ذلك يجعل كلمته وازنة، خاصة حين تتناول ظرفاً حاضراً، فرجل بهذا الحضور لا مجال لمحاورته باستخفاف. استخفاف كهذا سيكون من دون شك وقبل كل شيء استخفافاً بمجلة «شعر» ومجلة «مواقف» و «الثابت والمتحول» و «أغاني مهيار الدمشقي» و «مفرد بصيغة الجمع»، و «ديوان الشعر العربي» و «ديوان النثر العربي» وهذه أمور لا سبيل إلى الاستخفاف بها، فهي علامات في ثقافتنا ولا يسعنا أن نغفل عنها في معرض الكلام عن تاريخنا الأدبي والثقافي الراهن. ثم اننا لا ننسى أن أدونيس الشاعر والمفكّر أكثر سربِهِ حضوراً وأكثرهم إثارة للجدل وأكثرهم تأثيراً، فنحن إذ نناقشه نفعل ذلك بالجدية التي تستحقها قامة مماثلة. غير أن هذا بطبيعته لا يلزمنا بأفكاره ولا يلزمنا بأحكامه.
من المماحكة أن نتكلم عن عَلَوية أدونيس أو أن نردّ مواقفه إليها، فأدونيس مذ كان فتى وهو يناهض الاتباع المطلق لأي دين ولأي مذهب. من المماحكة أن نستعيد للمرة الألف حكاية جائزة نوبل وكأنها عارٌ على أدونيس، كما العودة المتكررة إلى أبياته التي حيّا بها الثورة الإيرانية حين كانت مداً جارفاً وحين اجتذبت عشرات المثقفين، وتعييره بها. هذه العودة لا تقل مماحكة عما سبق. السجال على هذا النحو ليس سوى مناكفة أو مكايدة، غير أن هذا لا يمنعنا من أن نلاحظ أن أدونيس في نظره إلى التاريخ وإلى السياسة، وفي غضون ذلك الإسلام، يقع في تبسيطية لافتة.
منذ الثابت والمتحوّل نرى أن نظر أدونيس للتاريخ إن تميّز بشيء فهو لا تاريخيته، إذ إن التاريخ في نظره عبارة عن تضادٍّ ثنائي ومانوية متصّلة: ثابت ومتحوّل. رغم تبحّر أدونيس في التراث فإن في هذه الثنائية شيئاً من الرؤية الدينية التي تقوم في الأساس على ثنائيات منها الخير والشر. هذا النظر إلى التاريخ لا يقيم فارقاً بين المراحل والعصور، ولا يرى الحادث ضمن محيطه وما يكتنفه من ملابسات ومقومات، وما يجعله منظومة من التفاعلات التي تعود إلى ظروفه وإلى عصره. كما أن هذا النظر يعزل الأفكار عن الوقائع ويرى التاريخ سلسلة متماثلة من الردود. هذا ما بدا في حديث أدونيس لـ «السفير» حين يرجع إلى واقعة سقيفة بني ساعدة ليعمّمها على التاريخ كله، وبخاصة التاريخ المعاصر والراهن. كما يبدو حين يعيد أدونيس الإسلام إلى امتهان مؤسسيه التجارة، والتجارة في مجتمع قبلي هي الأكثر تقدماً والأكثر أهلية لبناء دولة. لكن المسألة ليست هنا، فأدونيس يردّ الحاضر إلى كون مؤسسي الإسلام تجاراً. هذا يعني انه يردّ الحاضر واللحظة الراهنة إلى ما يزيد عن 14 قرناً. التاريخ ليس في نظره سوى سلسلة من التماثلات، سوى طبعة أوسمة تتكرّر وتستعاد كل وقت وكل فترة. ليس من الضروري بالطبع أن نذكّر بتاريخ 14 قرناً وما حواه من ظروف متبدلة ومراحل مختلفة. لكن من الضروري أن نقف عند الظرف الأخير «الكولونيالية، فلسطين، حركة التحرر الوطني، الانخراط الجماهيري المتزايد في السياسة، الموقف من الغرب» لنفهم لا حاضرنا فحسب ولكن حاضر الحركات الإسلامية نفسها الذي لا ينفكّ عن فشل الأنظمة العسكرية وفشل مشروع التحديث والدولة، كما لا ينفكّ عن الانخراط الجماهيري المتزايد في السياسة، فالإسلام الحديث هو جزء من عصرنا الحديث وتاريخنا الراهن، وهو رد، بمنطقه ولغته، على تحديات حاضرة.
لا نخالف أدونيس في نظره للتاريخ ولكن أيضاً في تناوله للسياسة، لذا بقدر ما يبدو لنا أن أدونيس ميّال إلى أسطرة التاريخ نراه ميّالاً إلى إنكار السياسة، لكنه مثل جميع المنكرين للسياسة يكون فيها حين يُنكرها ويكون خارجها حين يعترف بها. في حديثه لـ «السفير» يتكلم أدونيس عن الإسلام الأول وعن مؤسّسيه التجار الأمر الذي ينتهي، للأسف، بالسلطة والمال، ولو شئنا أن نجد اسماً مقابلاً للسلطة والمال لقلنا إنه السياسة. ليست السياسة هكذا في نظر أدونيس إلا انحداراً إخلاقياً يطبعه المال. اين نجد السياسة إذاً خارج السلطة وخارج المال؟ هكذا كان أدونيس طوال حياته محارباً شرساً ضد الدين، لكنه لم يفه بكلمة ضد نظام سياسي. قد ينتقد الأنظمة بالجملة لكنه لا يسمّي نظاماً والذين طالبوه بأن ينتقد نظام الأسد لم يتذكّروا هذه القاعدة التي التزمها على الدوام. في حديثه إلى «السفير» واظب أدونيس على قواعده. يخوض معركة ضد تجريد ضخم هو الدين ويحاربه في أولياته وبداياته البعيدة ومن دون أن يتوقف عند حاضره ونتائجه الراهنة، ويجابه سياسة لا اسم لها إلا حين يُنكرها ويدحضها أخلاقياً.
صحيفة السفير اللبنانية