‘لا تطفئ الشمس’ بين الرواية والمسلسل
كان مجرد سماع عنوان “لا تطفئ الشمس” كافياً بالنسبة لي لمتابعة مسلسل عربي، فأنا عازف، بحكم الانشغال والذائقة، عزوفاً طويلاً عن الدراما العربية، خصوصاً بعد أن صارت المسلسلات ومتابعتها بشكل عام شأناً تجارياً بحتاً، إضافة إلى ما صار يسبّبه مطلب الثلاثين حلقة، في رمضان، الذي فرضه المنتجون على أنفسهم وعلى من يعمل معهم من الفنانين، من مطّ وافتعال وخروج عن السياق.
متابعة هذا المسلسل تأتي لأنه معَدّ عن إحدى أجمل روايات الكاتب الرومانسي الكبير إحسان القدوس، ولأنها ارتبطت بشبابنا، بل بمرحلة من عمرنا نحن العرب عشنا فيها نقاءَ الرومانسية سياسيةً واجتماعيةً وثقافية، وكانت هذه الرواية، والفيلم والمسلسل اللذان أُعدّا عنها في الستينيات، وروايات إحسان عبدالقدوس بشكل عام أبرز ما مثّلها ومثّلنا.
لكن المسلسل لم يحبطني ويصدمني فحسب بل آلمني جداً، حين وجدته يُطيح بهذه الرواية الجميلة، فيسيء للكاتب الكبير ولرمزية الرواية وأيقونيتها كما كُتبت وأُنتجت فيلماً ومسلسلاً قبل نصف قرن.
من هنا تأتي وقفتنا القصيرة هذه عند هذا المسلسل. وواضح، من مدخلي هذا، أني لست معنياً، في وقفتي، بمعاناة المُشاهد وهو يحاول فهم ما تقوله الشخصيات، في ظل عدم وضوح كلامها بسبب السرعة، واختلاط الحوارات بالموسيقى وعدم صفاء الصوت أحياناً، كما لست معنياً بالظلام المخيّم على البيت في غالب الأوقات، ولا بأغنية التتر التي قد تكون أحد مواطن الجمال القليلة في المسلسل.
كما لست معنيّاً بما قد يقوله بعض مقدّمي ومقدمات البرامج مثل (لميس الحديدي) وهم يُغدقون بمجانية مطلقة صفات العظمة والعبقرية على المسلسلات والمخرجين والمؤلفين وكتّاب السيناريو والفنانين، أو يتغزّلون بضيوفهم أكثر مما يقيّمون موضوعياً أعمالهم، أو لا يترددون بتقديم حتى الكومبارس وكأنه فاتح الفتوح، ببساطة لأني أنشد الحقيقة والصراحة اللتين لا نكاد نجدهما عند أيًّ من هؤلاء.
في العودة إلى إحسان عبدالقدوس، نقول إذا كانت “لا أنام” تقدم حالة إنسانية، و”الوسادة الخالية” موضوعاً بسيطاً ولكنْ ملفتاً، و”في بيتنا رجل” جوهر الإنسان الذي يظهر حين يُستفز هذا الإنسان، و”لا أنام” موضوعة التسلق وأزمة المتسلّق في عدم احترام الذات الملوّثة، فإن “لا تطفئ الشمس” تقوم بشكل أساس على مجموعة شخصيات تجمعها عائلة قد تمثل مجتمعاً أو فئة اجتماعية، وعليه فإن أي خلل في تقديم شخصياتها، أو تحوير غير مناسب فيها قد يلغي خصوصية الرواية، بل قد يقضي عليها، وهذا تماماً ما فعله برواية “لا تُطفئ الشمس” كاتب السيناريو تامر حبيب والمخرج محمد شاكر خضير.
وهكذا بعد أن ارتبطت الرواية بأجيال ومرحلة معينة، فإن السيناريست والمخرج، بعملية تشويه مارساها بحق الرواية، أساءا إلى تلك المرحلة، وإلى رمزية الرواية فيها. وأول ما تمثل هذا التشويه كان في أن إحسان عبدالقدوس ما أراد (وساخة) الشخصيات، بل (أزماتها)، وهي تنفصل عن الخارج وتتعالى على الواقع من حولها، وهو تمثّل نماذج بشرية أو عوائل أو فئات في كل مرحلة يمرّ يمر بها أي مجتمع على أرض الواقع، فغاب هذا كله عن المسلسل حين عمد المخرج والسيناريست، بدلاً منه، إلى إضفاء وساخةً وتلوّثاً على ذواتها وانحرافات بل وتجاوزات منها على القيم العامة، وليست المرحلية.
فنحن هنا نفهم أن لأي سيناريست أو مخرج أن لا يحبس نفسه بقيم مرحلة يعالجها عملٌ ما عادت هي الحاكمة أو المسيطرة في مرحلة لاحقة حين يقدمه وهو يعالجها. ولكن أن تكون هناك قيم متغيرة مرتبطة بمرحلة معينة لا يعني أن لهذا السسناريست أو المخرج أن يتجاوزها متى شاء، بل إن التغيير يجب أن يتناسب مع طبيعة عالم العمل، والمرحلة التي يعالجها، وروح العمل الأصلي وهو ما لم يراعِه السيناريست والمخرج حين تجاوزا القيمة الثابتة والقيمة التمغيرة، فما جاء سلوك أي من الشخصيات مقنعاً، لتكون النتيجة تشويهاً للعمل، ولاسيما شخصياته المصرية، وكل ذلك بمراهقة واضحة وغريبة.
هنا نتساءل إذا ما رضي المصري بأن يشوه السيناريست والمخرج عملاً خالداً مثل “لا تطفئ الشمس” ومؤلفاً عظيماً مثل إحسان عبدالقدوس، فكيف له أن يرضى بتشويه الشخصية المصرية لا سيما المرأة، حين كدنا لا نعرف في المسلسل نساءً إلا وهن يخُنّ أو، في أقل تقدير، يقمن علاقات بفوضى وبجمعن أكثر من خليل، وينطلقن (على حل شعرهن) على حدّ التعبير المصري الدارج.
فبعد أن عرفنا الصغيرة (آية/ ليلى) في الرواية شبه مراهقة لا تفتقد البراءة، تقع في حب أستاذها الكبير مما تقع فيه الكثير من الفتيات خصوصاً حين يفتقدن الأب فيبحثن في اللاوعي عنه في رجل كبير السن، فإنّ المسلسل يُفسد هذا الجانب شبه البريء فيها ويُقدّمها وهي لا يكاد يضبطها ضابط، فتبدو في هذا وفي طريقة كلامها وسلوكها سكرى بخمر أو بدونه، فلا تتردد في إقامة علاقة مع أي رجل بمجرد أن تهواه اللحظة.
وبعد أن قدّمت الرواية إحدى أجمل شخصياتها (نبيلة/ إنجي) واعيةً ورزنة ومحبة باندفاع ولكن دون مغادرة للعقل، يُقدِم المسلسل، بدون مبرر مقنع بل بما يبدو رغبة غريبة في التشويه، على مسخها تماماً، فتفتقد الاتزان في علاقاتها الغرامية وتُقدم على تعدد العلاقات والخيانة الزوجية وعلى الجمع بين أكثر من رجل بل على ما يقترب من الشذوذ.
أما (فيفي/ أفنان)، فبعد أن قدمتها الرواية معقّدة بعض الشيء بسبب افتقادها الجمال والحب وزحفها نحو العنوسة، يقدمها المسلسل، بعد أن فلتت من هذا الذي عليه الأختان الأخريان، مرتبكة السلوك وكأنها نصف مجنونة ونصف معقدة. وتمشياً مع هذه النخبة المشوّهة من الشخصيات المصرية، يقدم المسلسل الشخصيات الأخرى ومعظمها لا يكدن يسلمن من هذ التشويه، مثل (بيلا) زوجة (الخال عزّت بك/ سامي) وابنته (توفي) وصديقة الابن الأصغر (رشا).
وإذا لم تدخل الأم (إقبال/ عنايات)، ميدان الخيانة والتخبط في العلاقات، فإن المسلسل، وبعد تقديم الرواية لها وريثةً لسلبيية البيئة الباترياركية والطبقية، قدمها امرأة جافة ولا تُحسن إدارة بيتها، بل تفتقد كل مشاعر الأمومة خصوصاً حين تُقدم على طرد ابنها (آدم) بشكل لا يمكن حتى لأم مجرمة أن تفعله… وتمشياً مع هذه النخبة المشوّهة من الشخصيات المصرية، لا تكاد معظم شخصيات المسلسل الأخرى تسلم من هذا التشويه.
أما إذا ما ادّعى السيناريست والمخرج أنهما أرادا تعميق بعض الشخصيات، فنقول إن ما فعلاه، في الحقيقة إنما هو، في أقل تقدير، تسطيح لها، وهو الأمر الذي قد يظهر، إضافة إلى ما عرضنا، في الشخصيات الرجالية، ويتضح في ما فعلاه بالأخ الأكبر (أحمد/ أحمد)، فقد عرفناه في الرواية شخصية تعيش صراعاً كامناً أو غير معلن ما بين إرادة مجتمع وعائلة وريثة لأرستقراطية في طريقها إلى الزوال، وعليه أن يسهم في المحافظة عليها في ظل كونه الابن الأكبر وعدم وجود أب، بأن يكون رزناً وملتزماً وربما شديداً، وإرادة الطبيعة التي يفرضها عمر الشباب من حب ومتعة وانطلاق.
لكن من الواضح أن السينارست لم يكن على إلمام بهذه الاشكالية، فمسخه إلى شخصية مهزوزة لم نكد نراها طوال الحلقات إلا وهي (محششة)، وبالكاد تستطيع الكلام بكلمات تخرج مع الزبد وفحيح الأنفاس المتحشرجة. والأمر ينسحب على شخصية الأخ الأصغر (أحمد/ آدم)، الذي عرفناه في الرواية نقيّاً وصافياً، والأهم متمرّداً إيجابياً ويرفض ما يريد له الموروث الاجتماعي الطبقي أن يكون، ويسعى ليكون ما يريده هو، فجاء المسلسل ليقدمه بسطحية شبه مراهق متمرد بفوضى بل شبه (شعنون).
وكما سلب المسلسلُ الشخصياتِ ما كانت تتميز به من خصائص، فإنه حرم الممثلين الذين أدوها مما يمتلكونه فعلاً، فظهرت ميرفت أمين بنمط سطحي بارد وأداء آلي لم يتمثل فيه أي انفعال حقيقي، بل لا نبالغ إذا ما قلنا إنها غالباً ما بدت وقد فقدت أي حماسة واندماح مع الشخصية، وظهر محمد ممدوح بصورة كاريكتيرية بائسة متحدثاً، كما أسلفنا، بحشرجات لا بكلمات، وقد تحولت خصوصية أدائه التي نعرفها إلى عيب مُتعب للمتلقي، وربما له أيضاً، وبدت جميلة عوض وكأنها تؤدي مشهداً من دقيقة واحدة فقط (ربما هو الذي أدته للكاستنغ فأبقاها المخرج حبيسةً له)، حيث تبدو سكرى بلا خمر، وتتكلم وكأنها لا تنطق الكلمات بل تتساقط من فمها، بينما بدت أمينة خليل وكأنها محبوسة بأداء سابق، فليس من تغيير في طريقة كلامها وفي نظراتها وفي حركتها. وإذا ما خرج أحد من حالات الموت التي أصاب المخرج بها جميع النجوم تقريباً، فإنه ريهام عبدالغفور، وإلى حد ما أحمد مالك.
وإذا ما ادّعى المسلسل، كما يشير التتر، أنه يقدم الرواية برؤية خاصة، فإننا ابتداءً نتفهم مثل هذا الأمر، وهنا نتذكر أن نجيب محفوظ، سُئل مرة عما فعله مخرجون ببعض أعماله حين قدّموها سينمائياً ودرامياً، فأجاب بما معناه أن رواياته هي تلك المطبوعة في كتب، وليست المنتجة سينمائياً ودرامياً، فتلك هو غير معنيّ بها. وهذا أمر مفهوم ويمكن أن نقتنع بمنطقه، وإلا ما فائدة إعادة إنتاج وتمثيل أعمال مسرحية أو قصصية أو روائية إذا كنا نتوقع أن تُقدم تماماً كما عرفناها سابقاً؟
كما من الطبيعي أن يكون لكل كاتب أو منتج أو مخرج أو سيناريست رؤياه التي تختلف عن رؤى آخرين، ومن هنا نفهم ما يعني الإعلان عن تقديم المسرحية الفلانية لشكسبير، مثلاً، برؤيا جديدة أو بنسخة جديدة أو بإخراج جديد. ولكن حين يتخطى ما يفعله المخرج أو المعدّ أو السيناريست أو المنتج روح العمل واختلاف الرؤيا إلى إلحاق الأذى بسمعة العمل أو المؤلف أو الوطن أو بفئة بشرية معينة، وهو يفعل ذلك باسم العمل الأصلي، فإن رأي نجيب محفوظ هذا يصير غير مقنع. فالذي فعله السيناريست والمخرج هو بكل وضوح ليس رؤيا، بل تشويهاً لرؤيا عبقري الرومانسية العربية إحسان عبدالقدوس وقتلاً لإحدى أجمل رومانسيات الأدب العربي، وتشويهاً للشخصية المصرية ولاسيما المرأة.
وردّاً على ادعاء البعض بأننا يجب أن لا نغمض أعيننا عن السوء والسيّئ في المجتمع، نقول ما من أحد اعترض على تقديم “رية وسكينة” بجرائمهما البشعة فنياً بحجة الإساءة لمصر والمصري، ببساطة لأنهما شخصيتان سيئتان من وسط كبير، ومن ثمّ فتقديمهما بهذا الشكل لا يسيء للفئة الاجتماعية التي تنتميان إليها، وهذا غير ما تقدمه بعض المسلسلات حين تقدم جل الشخصيات لاسيما النسوية ساقطة أو سيئة، تماماً كما فعل مسلسل “لا تطفئ الشمس”، وكما فعل من قبل علاء الأسواني، مثلاً، في “عمارة يعقوبيان” التي لا أدري كيف ارتضى أي مصري الاحتفاء بها وهي تقدّم جميع شخصياتها سيئةً أو منحرفةً أو في أقل تقدير مخطئةً باستثناء واحدة قدمها جميلة ونزيهة ومُحبّة للآخرين بل ملائكية تماماً، والمفارقة أن جميع هذه الشخصيات مصرية باستثناء تلك الشخصية فهي ليست مصرية.
بقي أن أقول بصراحة إنني، وأنا أرى هذه المعالجة البائسة والمسيئة للعمل الروائي الأصلي ولشخصياته وللشخصية المصرية، شعرت بأن الذي فعل هذا لا يمكن إلا أن يكون قد فعله وهو في وضع نفسي وإدراكي غير طبيعي أو غير متوازن، فلا يمكن أن يُقدِم مؤلف أو سيناريست أو مخرج على تقديم كل هذا السوء والتشوه والتشويه ما لم يكن هناك خطأ ما فيه، ولكن لا يتحمل نتائجه هو وحده بل مجموعة الممثلين الرئيسين ما داموا ارتضوا الأمر ولم ينسحبوا بعد قراءة السيناريو، مما أرى أن صورة اللقطة التي التقطتُها شخصياً من المسلسل تجسّده برمزية دالة.
ولعل ما قاد المخرج والسيناريست إلى فعل ما فعلاه، المبالغة في إطراء (كراند هوتيل)، فهي من نوع المبالغة التي تُفسد ولا تطور، وتحديداً حين يكون الممدوح شاباً، فيتمرّد على كل ضابط ومعيار وقيمة ولسان حاله يقول أنا الذي أقدّم الضابط والمعيار والقيمة، حتى وإن قاد ذلك إلى إساءة إلى روائي كبير ورواية عظيمة، بل إلى الشخصية المصرية، مما لا أظن أن الروائي الراحل كان ليرتضيها، وعليه آمل أنْ لا تسكت عائلته وورثته فيطعنوا بهذا الذي فعله المسلسل لرد الاعتبار للرواية والروائي والأجيال بل لشعب، على الأقل حين شوّه الشخصية المصرية.
*ناقد وأكاديمي عراقي