لا حلّ إلا بالحداثة ولا خلاص إلا بالعلمانية

ظاهرة الاقتران بين السياسة والدين ذات جذور في التاريخ العربي والاسلامي، من دول أقامت شرعيتها على الدين الى حركات سلفية أنتجت دعوتها دولة، كالوهابية والمهدية والسنوسية. غير أن اياً من هذه القوى، باستثناء السلفيات الحديثة، لم تذهب بذلك الاقتران الى حد المماهاة كما ستفعل قوى «الاسلام الحزبي» التي سعت في إسقاط شرعية الدولة الحديثة، بحجة أنها تأخذ بتنظيمات مستعارة من غير المسلمين، داعية الى اقامة دولة اسلامية محكومة بالشرعية. فما «الإسلام الحزبي» وبمَ يتميّز عن غيره؟ كيف نشأ وتوسّع؟ وماذا كان حصاده السياسي؟

حاول عبد الإله بلقزيز الإجابة على هذه الأسئلة الإشكالية بمنهج تميّز بالرصانة والجدية، في كتابه «الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي» منتدى المعارف 2015، فرأى ان «الاسلام الحزبي» هو الدرجة العليا في «الاسلام السياسي»، لأن مبناه على مطابقة السياسة بالدين، على تعريف شهير للإسلام بأنه دين ودنيا، مصحف وسيف، خلافاً لكل الحركات الاصلاحية الاسلامية، بل والسلفيات الوطنية والطرق الصوفية. وبهذا انفرد بالقول بمسائل ليست محل إجماع بين المسلمين، مثل إنفاذ أحكام الشرع في النظام الاجتماعي والسياسي، وتحويل الاسلام من عقيدة للأمة جمعاء الى ايديولوجيا سياسية في حلبة الصراع على السلطة وعلى النفوذ. وقد انتحل في سبيل ذلك دوراً مهدوياً وصفة طهرانية، فضلاً عن الفرادة في احتكار الرأسمال الديني بغية توظيفه في الصراع السياسي. الأمر الذي أفضى الى انغلاقية الاسلام الحزبي ومذهبيته وطائفيته، وهو ما لا يقترح على المجتمع إلا الفتنة.

فكيف نشأت حركات الاسلام الحزبي، وما هي الاسباب والعوامل التي وفرت لميلادها واستمرارها البيئة المناسبة وجعلت منها الثمرات المرّة للمآلات البائسة للتاريخ العربي؟

ينيط المؤلف الى التحديث السياسي المزيّف والشكلي، الدور الرئيس في انبعاث هذه الحركات. إذ إن النموذج الجديد للسلطة لا يمكنه إلا أن يقود الى الانسداد السياسي، فحين تحتكر السياسة نخبة حاكمة حزبية أو عائلية او عسكرية، تصادر المجال العام ويبلغ استبدادها حداً عالياً من القمع، ويكون من الطبيعي أن تجنح قوى سياسية للتعبير عن نفسها بمفردات غير سياسية، وأن ينحو في ذلك اسلوب العنف. كما ان الواقع الاجتماعي الذي اشتدت وطأته على الطبقة الوسطى وملايين المهمّشين والعاطلين من العمل، يشكل هو الآخر سبباً لازدهار افكار العنف. وللنظام التعليمي مسؤولية أساسية في إيجاد البيئة المولّدة والحاضنة للحركات الإسلامية المتطرفة، من خلال حال الادقاع الفكري والفقر المعرفي والانغلاق على اليقينيات، اذ هي لا تعلّم سوى الاجترار، ولا تكرّس سوى تقديس نصوص القدامى، بل تعطّل حاسة النقد تعطيلاً تاماً. ويفصح ميلاد الاسلام الحزبي عن أزمة عميقة في اسلام العلماء المرتبطين بالدولة، حيث الخلاف مع هؤلاء على الموقف من السلطة لا على شرعية خطابهم في الدين. ويتغذّى صعود الحركات الإسلامية من حال الوهن في الاسلام العالِم، ومن افتقار التاريخ الإسلامي المعاصر الى الإصلاح الديني، واشاعة قيم التسامح والاعتراف بالآخر، الامر الذي خلف فراغاً أتقنت الإسلامية الحزبية استثماره. وقد ساهم تراجع قوى اليسار كذلك في نمو حركات الاسلام الحزبي وانتعاشها، فمن خراب هذه القوى في الستينيات والسبعينيات صعد هذا الإسلام، ومن حجارة ذلك الخراب أقام عمرانه.

تطرق المؤلف أخيراً الى حصاد الاسلام الحزبي، فأشار الى ان هذا الحصاد كان سيئاً، وقد فجّر من التناقضات والمشكلات أكثر مما فعلت عهود الاستبداد السابقة. فثمة نتائج في غاية الخطورة أفضى اليها ولوج الاسلام الحزبي عالم الحياة السياسية، منها: أ ـ تعريض الاستقرار الداخلي والوحدة الوطنية للشرخ والتصدع، فقد كان في العالم العربي حد أدنى من الحريات السياسية برغم استبداد الانظمة، لكن ما إن دخل الاسلاميون معترك السياسة حتى باتت الحياة شبه مستحيلة في ظل أحكام التكفير وإعدام المجال السياسي. ب ـ افكار العنف التي دخلت على الاسلام، انما مأتاها من مصادر اسلامية خارجية، هندية أساساً، بانت بصماتها في أفكار سيد ومحمد قطب المستقاة من أبي الأعلى المودودي وابي الحسن الندوي. ج ـ قدّم الاسلام الحزبي المساهمة الأخطر في تفجير تناقضات البنى الاجتماعية بإدخاله العامل الديني، كعامل ممايزة بدلاً من العامل الوطني. د ـ أساء الإسلام الحزبي الى صورة الاسلام في الخارج، وألحق أضراراً بالمسلمين في المهاجر. هـ ـ استدرج الاسلام الحزبي التدخل السياسي والعسكري الى ديارنا العربية، ما ادى الى احتلال كامل او جزئي لبلدان عربية وإسلامية، او استباحتها عسكرياً. و ـ شكلت الإحيائية الإسلامية قطيعة جذرية مع الاصلاحية الاسلامية وتراثها الاجتهادي، حيث خلت خطاباتها من أفكار وأسماء الطهطاوي والافغاني وعبده والكواكبي وعلال الفاسي ومحمد مهدي شمس الدين.

إزاء هذه المخاطر، يطرح المؤلف التوليف التركيبي بين الديني والسياسي على المثال التركي، إلا ان ميلاد اسلام عربي على مثال حزب «التنمية والعدالة» يصطدم بحقيقتين، أولاهما أن الحركة الاسلامة التركية سليلة حركة إصلاحية عثمانية لم تقطع معها بقدر ما استعادتها، على عكس الاسلام الحزبي الذي قطع بالكامل مع الفكر الإصلاحي النهضوي. وثانيتهما ان الاسلام التركي نما في حضن الحداثة العلمانية، بينما نما الاسلام الحزبي العربي في كنف النظم الاستبدادية والتسلطية.

في نظرة إجمالية، نرى ان المؤلف أضاء في العمق على اشكالية الدين والدولة، وهي الإشكالية الأشد حضوراً وإرباكاً في المجتمعات العربية الاسلامية، وقد تطرّق اليها في تعبيراتها المختلفة والمتناقضة، وصولاً الى الاسلام الحزبي الذي بات يهدد الحياة السياسية في هذه المجتمعات، إلا أننا نسجل على المؤلف:

ـ ‌أ يعاني كتابه من التسرّع والاستعجال، فضلاً عن التكرار والاستعادة.

ـ ‌ب انزلق الى تناقضات واستنتاجات مغايرة للواقع التاريخي ولحقيقة التوجّهات التاريخية للفكر العربي الحديث والمعاصر. من ذلك قوله: «في مجتمعاتنا السياسية العربية، نمط من العلمانية لا يقلّ خطورة عن الأصوليات التكفيرية، يمكن وصفه بـ «العلمانوية» وهذا هو عينه وصف محمد أركون للعلمانية من النمط اليعقوبي، التي تعني معاداة الدين وإقصاءه وتهميشه وتقييد الحرية الدينية… وأن معظم العلمانيين العرب ـ وهم ليبراليون او يساريون تأثر بهذا النمط من العلمانية».

لم يحدد بلقزيز هؤلاء العلمانيين ولا كيفية طروحهم العلمانية ولا شكل إقصاء الدين وتهميشه في الواقع السياسي والاجتماعي العربي، بينما الحقيقة ان الالحاد غريب عن الفكر العربي الحديث، وان العلمانيين العرب منذ القرن التاسع عشر كانوا مؤمنين، وأن جل ما اراده هؤلاء من احمد فارس الشدياق وبطرس البستاني وفرنسيس المراش الى امين الريحاني وانطون سعاده، مروراً بفرح انطون واديب اسحق وعبد الرحمن الكواكبي، انما هو فصل الدين عن الدنيا، والإيمان عن السياسة وأغراضها. اما شبلي الشميل الذي جاهر بإلحاده، فلم يشأ فرض فكره الفلسفي على المجتمع، تاركاً للمؤمنين حق الإيمان. ويبدو جلياً أن المؤلف يستعير موقف اركون، وهذا لم يدرج العلمانيين العرب في السياق العلمانوي.

ولقد تنبّه المؤلف الى حقيقة موقفه الملتبس، إذ رأى على الضد مما تصوّره من علمانوية عربية، ان السلطة في الوطن العربي الحديث لم تكن لتتخلى يوماً عن الدين او تفرّط فيه، حتى وهي تقيم نظام الدولة على مقتضى القانون الوضعي، وإن حالاً من الفراغ في العمل الاسلامي لم توجد في اي من المجتمعات العربية الحديثة والمعاصرة، لتؤسس شرعية مقولة الاسلام الحزبي.

ـ ‌ج إن إمساك العصا من الوسط، كما يراهن المؤلف، لم يؤد ولن يؤدي إلا الى اعادة احياء المنحى الاصولي، فلا خيار ولا رهان في رأينا الا على العلمانية التي نادى بها متنوّرو العرب، والتي هي سمة الحداثة السياسية والفلسفية. فالحداثة هي وحدها خلاص مجتمعاتنا من التخلف السياسي والاجتماعي والايديولوجي، ولا تنازل او مساومة في هذه المسألة.

ـ ‌د ليس صحيحاً ان قضية الديني والسياسي في الاجتماع العربي الحديث والمعاصر لم تحظ بكبير اهتمام علمي، ففي هذا تناسٍ لإسهامات كبرى في هذا المجال من فرح انطون الى علي عبد الرازق الى محمد اركون وناصيف نصار ومحمد عابد الجابري وعزيز العظمة ومحمد جمال باروت وسواهم، بل إن إسهام المؤلف في كتابه هذا قد يبقى دون أكثر هذه الإسهامات.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى