لا وجود لرأي عام

” الرأي العام هو أكبر كذبة في تاريخ العالم”، هذا ما قاله، الكاتب والمؤرخ الأسكتلندي الساخر، توماس كارليل، فلا شيء يمكن له أن يجمع بين ” الرأي” الذي يفترض بأنه حالة فردية بامتياز، تخضع لخصوصية ذهنية ووجدانية لا تهم إلاّ صاحبها، وبين كلمة ” العام” التي تعني الانتشار والتشابه والتداول من طرف عامة الناس.

عمليات سبر الآراء، في رأي الكثير من غير المؤمنين بها هي استخفاف بالعقل البشري، وفخ لاستدراج البسطاء نحو ” الرأي الآرجح” في حسابات تحكمها المصالح المالية والسياسية، وهي في نظر هؤلاء عمليات احتيال واستقطاب ولي حقائق عبر حالة من الإيحاء تغذي في البسطاء غريزة القطيع واتّباع ثقافة المسايرة.

إذا سلّمنا بأن استطلاعات الرأي قد تميزت بالحياد والموضوعية، والتزمت بتشريك كل الفئات الاجتماعية، فإنها ـ ومع ذلك كله ـ تبقى مهددة بما يعرف ب«تأثير برادلي»، ويعود أصل هذا المصطلح إلى انتخابات 1982 في ولاية كاليفورنيا الأميركية، حيث تنافس توم برادلي المرشح الديموقراطي الأسود مع مرشح حزب الجمهوري جورج دوكميجان، وكان هناك تخوف من إظهار عدم المساندة والدعم لمرشح أسود، فكانت نسبة التأييد في الاستطلاعات له أكبر من التأييد الفعلي خوفا من الاعتقاد بعنصريتهم تجاه السود.

ولعل ابرز ما يعيق استطلاعات الرأي ويشكك في مصداقيتها، هو “التحيز في الاختيار”، إذ يقوم الباحث بانتقاء عينات لا تمثل الشعب أو الشريحة المستهدفة، ويتم تعميم النتائج، وهنا تكمن غالبية الأخطاء والتوقع الخاطئ.

ومن أهم الأمثلة الدالة على ذلك، هو ما حصل في الانتخابات الأميركية عام 1936، عندما قامت مجلة ليترلي دايجست، بأضخم عملية استطلاع رأي حيث جاءت النتائج لصالح المرشح لاندون بنسبة 57 بالمئة على حساب روسفلت، الذي حصل على 43 بالمئة، وبالمقابل جاءت نتائج الانتخابات مغايرة، وفاز روسفلت بنسبة تفوق ال60بالمئة في الانتخابات، مما وضع مصداقية المجلة على المحك، ولكن وبعد تفحص العينات، تبين أن المجلة قامت باختيار فئات وشرائح غير عشوائية متمثلة بالمشتركين وقراء المجلة، وفي هذه الحالة ومهما بلغ عدد المستطلعين، فلا يمكن تعميم النتائج على الجميع، بسبب عدم تمثيل العينة لجميع المواطنين.

هناك مثال من الانتخابات البريطانية أيضا، حيث أثبتت الاستطلاعات انقسام مقاعد الحكومة بين حزب المحافظين وحزب العمال في معركة انتخابية حاسمة، الا أن النتائج جاءت عكسية وفاز حزب المحافظين بالأغلبية، أما الضربة الساحقة الماحقة لمصداقية استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة، فهي نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة.

ويعتبر فوز ترامب أحدث خيبة تضرب صناعة بحوث الرأي العام التي تقدر قيمتها بنحو عشرين مليار دولار، وذلك بعد شهور فقط من فشلها في التنبؤ بنتيجة تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء يونيو/حزيران الماضي.

أما في العالم العربي، فقد ساند الكثير من المتخصصين منذ فترة قرار السلطات المغربية منع نشر وسائل الإعلام نتائج استطلاعات الرأي السياسية لمدة شهر قبل موعد الانتخابات البرلمانية، وذلك حفاظا على مصداقيتها ونزاهتها، كما قالت الجهات المعنية. وهددت وزارة الداخلية المخالفين بالملاحقة القانونية التي قد تصل إلى السجن لمدة سنة.

المشهد الكويتي يعاني من ذات المشكلة، حيث تقوم غالبية شركات الاستطلاعات والصحف باستطلاعات للرأي بعينات متحيزة، فتبنى توقعات الفائزين على عينات لا تمثل جميع المواطنين.

ويقول في هذا الشأن أستاذ القانون الدستوري، التونسي قيس سعيّد، انه لا يوجد اي نص قانوني ينظم عمل شركات سبر الآراء بل يوجد فقط فصل «يتيم» بالقانون الانتخابي يتعرض لعدم نشر سبر الآراء قبل موعد الانتخابات ولكن ذلك غير كاف على الإطلاق بل يجب تنظيمها في نص قانوني مستقل يضمن شفافيتها، فضلا عن رقابة من قبل هيئة مستقلة على غرار ما هو موجود بالعديد من الدول المتقدمة، ويضيف سعيّد أنّ ” النتائج المتعارضة لشركات سبر الاراء ببلادنا كثيرة وهذه العمليات يمكن أن يكون لها الأثر البالغ في توجيه الرأي العام حتى قبل موعد الانتخابات بكثير”.

أخطاء موضوعية وذاتية وتقنية تقف خلف ضعف وزيف عمليات استطلاع الرأي، مثل عيوب استمارة الاستطلاع أو ما يعرف ب ” الاستبانة”، إذ أنه يصعب استخدامها في حالة كان المستجوبون لا يجيدون القراءة والكتابة في المناطق النائية من بعض البلدان العربية ـ وما أكثرها ـ، مما يؤدي إلى احتمال قيام آخرين من غير المعني بالإجابة عن الأسئلة، وهو ما يزيد في تضليل النتائج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى