لا يا «مسيو» ساركوزي!

كانت قضيّة الهجرة والمهاجرين في صميم النقاشات السياسيّة بفرنسا خلال السنوات الأخيرة المنصرمة، لكنّها تقفز اليوم إلى واجهة الاهتمام مع تدفّق اللاجئين، وخاصّة السوريين منهم، بعشرات الآلاف في فترة قصيرة إلى أوروبا. تحرَّك الرأي العام الفرنسيّ والمجتمع المدنيّ أخيراً إيجابيّاً حيالهم، في حين وجدت الحكومة الحالية نفسها في إحراجٍ حقيقي من جرّاء موقف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي أعلنت تحمّل بلادها «للمسؤوليّة التاريخيّة» في استقبالهم وتنظيم ذلك عمليّاً.
في خضمّ النقاشات، أتحف الرئيس الفرنسيّ السابق نيكولا ساركوزي، الذي يسعى لإعادة انتخابه، الرأي العام في بلاده بمقابلة طويلة في صحيفة «الفيغارو» وخصّص معظمها حول قضايا اللجوء. وممّا قاله إنّه تجب إعادة صياغة القوانين الأوروبيّة حول حريّة حركة الأشخاص، أي اتفاقية «شينغن». مع التدقيق بسحنات العابرين لحدودٍ أُلغيت. لماذا؟ لأنّ اللاجئين سينتهون، برأيه، لا محالة في فرنسا، بسبب نظام المساعدات الاجتماعيّة التي تقدّمها، من دون أن يتساءل لماذا لم يبدِ اللاجئون، الذين مشوا آلاف الكيلومترات مع أطفالهم وتعرّضوا لمخاطر الموت أيّ رغبة في أن تكون فرنسا هي وجهتهم، بل قالوا ألمانيا أو السويد، حتّى قبل إعلان السيّدة ميركل موقفها؟ والأنكى أنّ الرئيس الفرنسي السابق لم يتساءل لماذا يقبع الآلاف منذ سنين في مدينة «كاليه» بشمال فرنسا في ظروفٍ بائسة ويرفضون اللجوء إلى فرنسا ويخاطرون بحياتهم كي يعبروا بحر المانش نحو بريطانيا؟
تغنّى بمقولة «تقليد فرنسا الإنسانيّ التاريخيّ كأرض لجوء»، التي يردّدها المسؤولون الحاليوّن ويسخر منها اللاجئون كما كلّ مَن يعمل على مساعدتهم، لأنّهم يعرفون التعقيدات البيروقراطيّة المقصودة حتّى على القوانين والحقوق القائمة لكبح طالبي الهجرة. ويعرفون كيف أُلقيت مسؤوليّة الاستقبال الحكوميّة على المنظّمات المدنيّة التي تفتقد للموارد، وكيف تُعيد الحكومة الحالية إلقاءها على المجالس المحليّة والبلديات التي تمّ تقليص ميزانيّاتها.
وطالب ساركوزي، في خضمّ أزمة اللاجئين، أن يتمّ التمييز بين اللاجئ الاقتصادي، الذي لا يمكن لفرنسا استقباله إلاّ بشكلٍ محدود جدّاً، وبين اللاجئ السياسيّ وبين اللاجئ بسبب الحرب. وهذا الصنف الأخير هو حال السوريين والعراقيين، الذين يجب أن يعودوا إلى بلادهم عندما يعود السلام. بالتالي جاء طلبه كصدى لما أعلنه الرئيس الفرنسيّ الحالي أنّه أرسل فريقاً إلى ميونيخ التي وصلها عشرة آلاف لاجئ في يومٍ واحد، كي يختاروا ألفاً منهم على أن يكونوا لاجئي حرب وليسوا لاجئين اقتصاديين، وكأنّ الحرب لا تقطع الأرزاق.
ذهب ساركوزي أبعد من ذلك باقتراحه تشييد مراكز احتجاز في الدول المحيطة بفضاء «شينغن»، والتي سمّاها «بلدان منافذ العبور»، يموّلها الاتحاد الأوروبيّ، وبحيث يتمّ هناك انتقاء المهاجرين «بالتعاون مع المفوضيّة العليا للاجئين». فما رأي ساركوزي بمركز احتجاز «كاليه» الذي تمّ إغلاقه أصلاً؟ وما رأيه في ما هو أبعد من ذلك بمخيّمات الزعتري ولبنان وتركيا؟ وما رأيه بمطالبات مفوضيّة الأمم المتحدة لأوروبا منذ زمن أن تستقبل آلاف اللاجئين ولا تترك العبء وحده على بلدان المنطقة المنهكة أصلاً؟
وحول سوريا، قال ساركوزي إنّه «كلّما أدارت أوروبا ظهرها للبحر المتوسّط، أدارت أيضاً ظهرها لمستقبلها. لذا يجب علينا أن نتدخّل». وهو بالطبع يقصد التدخّل العسكريّ، ويفتخر كيف قاد الحرب على ليبيا وانتصر في عشرة أشهر. هكذا يتجاهل ساركوزي بما أخذ إليه ليبيا وكيف أنتج التطرّف والفوضى فيها كما أنتج جورج والكر بوش ما حلّ بالعراق الذي انتهى بـ «داعش». وكيف ساهمــت وعوده بالتدخّل العــــسكريّ في سوريا في تحويل ثورة حريّة وكرامة إلى غير غاياتها، وكيف أفقرت عقوباته شعباً في عزّ نضاله ضدّ الاستبداد.
«مسيو» ساركوزي، هناك الكثير من الوحشيّة في جنوب المتوسّط اليوم، ولكنّه يعرف القدر الأكبر من الإنسانيّة، وتاريخه مليء أكثر بالتسامح الدينيّ واستقبال المضطهَدين، وهو يدفع اليوم ثمن الحريّة أكثر من أيّ مكانٍ آخر.
صحيفة السفير اللبنانية