يتابع أحمد بيضون في كتابه الجديد «لبنان، الإصلاح المردود والخراب المنشود» (دار الساقي – بيروت)، «حفرياته» في بنى النظام اللبناني الطائفي، من مداخل متعددة تتجاوز هذه المرة الطائفية في كينونتها المحلية، لتنجدل بالتطورات العربية وما بدأ ينتج منها اثر الحراك والانتفاضات التي شهدتها بعض الأقطار منذ عام ونيف. يجمع الكتاب بين دفتيه مجموعة مقالات تمتد من عام 2005، عام اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، الذي شكل زلزالاً لا تزال تفاعلاته السلبية ماثلة حتى اليوم في مجمل الحياة السياسية اللبنانية وتطوراتها، وهي مقالات تجول في مواضيع كثيرة، تتراوح بين النظري والسياسي والعملي، إلا أن الأساسي في معظمها يتركز على القراءة القديمة – الجديدة – المتواصلة للنظام الطائفي اللبناني.
يلخص أحمد بيضون في تصديره للكتاب معظم أطروحاته حول هذا النظام، تلك الأطروحات التي بدأ النبش فيها مع كتابه «الصراع على تاريخ لبنان، 1989»، فيقول: «ترمي المقالات والأوراق المجموعة هنا إلى ترسم الخطوط العميقة لهذه الأزمة منطلقة من القول بوجود «تاريخ» للنظام الطائفي ولأزماته، أي بامتناع تكرار الأزمة الواحدة ما تشكلت منه صور سابقاتها.
ويفضي الترسم نفسه إلى القول بالتناقض من أزمة إلى تاليتها في قدرة النظام الطائفي على اجتراح المخارج لنفسه. ويتبع هذا التناقض في موارد التكيف التي يسع النظام أن يتصرف بها طفرات التحقق التي تحصل لهذا الأخير أي انتقاله من طور في الطائفية إلى طور «أرفع» يتكيف فيه الحضور المباشر للطوائف في ساحة السلطة والعمل السياسي الاجتماعي ويزداد فيه استغناؤها عن مكونات مشتركة بينها، وأخرى ملتبسة التمثيل لها أو جزئيته إلى هذا الحد أو ذاك، وثالثة واقعة في هوامشها أو مموهة الانتساب إلى نسيجها. أي أن بلوغ «التبلّر الطائفي» الصريح في المجتمع وفي النظام السياسي سوية «أرقى» لا يني ينقص من قدرة النظام على إدارة سياسية للبلاد ممتعة بدرجة من السلاسة تكفي في الأقل، لاستبعاد «الأزمة الدائمة أو المفتوحة» أو «الأزمة المتفاقمة» في اتجاه انفجار أو انهيار معمم وصفاً لحال البلاد يفرض نفسه».
يركز بيضون على التناقض بين النصوص الدستورية وبين ممارستها، يقر الدستور بالمساواة بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات والحريات الديموقراطية، بما يشبه الدساتير في الدول الديموقراطية، أي بمعنى آخر تحقيق المواطنة التي «تبنى عليها الهياكل العامة لسلطة الدولة». لكن المشكلة في النظام اللبناني ليس ما يرد في الدستور، بل تلك النصوص الخارجة عنه والتي تتجلى فيها الصفة الطائفية للنظام السياسي، وتطاول في الآن نفسه مجمل الحياة المدنية للبنانيين. على رغم أن هذه النصوص جرى التعبير عنها أحياناً في كونها موقتة، وأحياناً انتقالية، لكنها تحولت إلى ثوابت، لكونها تشكل الضمانات للطوائف وحقوقها في بناء مؤسساتها المدنية والتعليمية والدينية، وللتحول إلى قوانين «سرمدية» تأسر اللبنانيين داخل جدرانها بل وتتحكم بحياتهم من الولادة حتى الممات.
الحياة المدنية
يشار هنا إلى المادة 95 من الدستور والمتعلقة بالتمثيل العادل للطوائف في الوظائف العامة وفي تكوين الحكومات وذلك «بصورة موقتة والتماساً للعدل والوفاق»، وهي ظلت سارية منذ وضع الدستور اللبناني عام 1926 حيث جرى تعديلها بموجب اتفاق الطائف لمصلحة مرحلة انتقالية تطبق خلالها «الخطة المرحلية» الآيلة إلى إلغاء الطائفية السياسية. لم تسقط هذه النصوص والمواثيق اللبنانية فجأة على المجتمع اللبناني، بل هي تستند إلى تراث عريق يعود لأكثر من قرنين من الزمن.
لم تقتصر حماية الطوائف وضماناتها على الجانب السياسي، بل امتدت إلى الحياة المدنية، خصوصاً في مجالي الأحوال الشخصية والتعليم، حيث تبدو مفاعيلها السلبية طاغية ومكبلة للمـــواطن اللبناني، بل ونافية عنه كل ما ينص عليه الدستور من حق المواطنة وما يكفله على صعيد الحريات الشخصية.
فمن حق كل طائفة أن تضع تشريعاتها في الأحوال الشخصية، وإذا تناقضت مع الدستور، فإن الأولوية لتشريع الطوائف، وهو ما يشكل معضلة كبرى وبنيوية في لبنان مانعة للوصول إلى تشريع مدني للأحوال الشخصية. فالطوائف مستعدة لحروب دائمة مهما كانت كلفتها التدميرية على المجتمع اللبناني، من أجل منع تشريع مدني يمس سلطتها ويزيح عن كاهل الشعب اللبناني تحكّم رجال الدين برقاب المواطن. وإذا كان الغبن وعدم المساواة بين المواطنين اللبنانيين يطاول جميع أبناء المجتمع، إلا أن غبناً مضاعفاً يطـــاول المرأة اللبنانية التي يحرمها النظام الطائفي الكثير من الحقوق في ما خص الزواج والطلاق والإرث، والحق في إعطاء الجنسية اللبنانية لأولادها في حال زواجها من أجنبي.
إذا كان الدستور ومعه «الميثاق الوطني» الموضوع عام 1943 والذي ينظم العلاقات بين الطوائف ومواقعها في السلطة، يعتبران النصوص التأسيسية للنظام الطائفي، إلا أن الممارسة السياسية والطائفية في فترة ما بعد الاستقلال أدخلت تعديلات على منطق الميثاق ليتحول إلى ما يعرف بـ «الصيغة». هذه «أقدم من الميثاق ومن الدستور نفسه، وهي، تاريخياً وواقعياً، أرسخ قدماً وأعمق فعلاً من الميثاق والدستور كليهما». هذا الاختلاط بين الدستور والميثاق والصيغة ينعكس سلباً على حضور المواطنة التي يفترض أن تشكل المرجع الأساس لحقوق اللبناني. إن أهم نتائج هذا الاختلاط تتجلى في تعيين الطائفة مرجعاً وحيداً، فيتحول المجال العام إلى تقاسم بين الطوائف، والى اكتساح الطوائف للمشترك بين اللبنانيين، بل إلى تنسيب كل طائفة البلد نفسه إلى مجالها الخاص. لعل المرحلة الراهنة من تاريخ لبنان وتطوره تشير إلى أخطر المراحل التي هيمنت فيها الطوائف على البلد وتقاسمت مؤسساته وموارده، وألحقت الفرد اللبناني بسلطاتها في شكل مطلق.
ينضم كتاب أحمد بيضون إلى سائر مؤلفاته التي جالت حفراً في النظام السياسي الطائفي، وقدمت جديداً في هذا المجال بما يبدو نافراً وخارج المألوف قياساً إلى الثقافة الطائفية والمذهبية التي جنّد كتّاب ومثقفون أنفسهم للتنظير أيديولوجياً وسياسياً لهذه الطوائف، وأنتجوا تراثاً ومجلدات من «سقط المتاع» الطائفي. كتاب أحمد بيضون خطوة راسخة في الطريق الطويل المتعثر والمتعسّر نحو تغيير النظام الطائفي اللبناني.