لبنان بانتظار الأسد أيضاً..
انتقل لبنان من بلد يصدّر الحرف الى العالم (إذا صدقت الرواية الفينيقية طبعا) الى دولة فاشلة تصدر النفايات. صار الشعب المستعبد قابلا أن يُطمر بالزبالة. فلا عجب ان يتأخر انتخاب رئيس للجمهورية حتى تنجلي الأمور أكثر في سوريا.
دعونا من التوصيف ولنحاول أن نفهم بالمعلومات، ما الذي يعطل انتخاب رئيس؟
ـ كانت الرئاسة معلّقة على أوهام التغيير في سوريا، أخطأ الجميع، فلا النظام سقط أو هو آيل للسقوط بعد الحصانة الداخلية والإقليمية والدولية، ولا عودة سوريا الى ما كانت عليه ممكنة.
ـ في فترة الأوهام تلك، سأل أحدهم الرئيس السوري بشار الأسد: «هل بعد كل ما حصل، ستقبل يوماً باستقبال قيادات كوليد جنبلاط او سعد الحريري؟»، قال: «حتى لو انا قبلت لأسباب سياسية، فالشعب سيحاسبني، فكيف نستقبل من تلطخت أيديهم بدماء السوريين، وما قبل الحرب ليس كما بعدها؟».
ربما كان الرجلان غير راغبين باللقاء مجددا مع الذي وصفوه بـ «السفاح». لكن هذين الرجلين سبق أن وصفاه بأسوأ من ذلك ثم ذهبا للتنسيق مع نظام يتهمانه بقتل والديهما منذ أيام حافظ الأسد حتى اليوم. وها هو الحريري نفسه يقبل بحليفين لـ «حزب الله» وسوريا كمرشحين لرئاسة الجمهورية حتى ولو أنه لم يرشحهما رسميا، ويتنافر مع سمير جعجع بينما يتبدى «حزب الله» نفسه وفيا جدا لحلفائه. دعونا إذا من لغة المبادئ.
ـ في فترة الأوهام أيضا، سمع أحد الجنبلاطيين من مسؤول كبير في «حزب الله» ما مفاده: «لا تقلقوا، لن تمر 24 ساعة الا ويكون التمرد في سوريا قد انتهى».. لم ينته. تحول الى حرب كونية بدماء السوريين.
ـ أما وقد انجلت بعض الأوهام اليوم، فلن يكون رئيس في لبنان او رئيس حكومة مناهضا لسوريا. يروي وزير أوروبي أنه حين طرح قضية الرئاسة اللبنانية على المسؤولين الإيرانيين، كان الجواب واضحا: «اذهبوا ونسقوا مع حزب الله». الروس قدموا النصيحة نفسها. قال مسؤول روسي لنظيره الأميركي «ان الحزب خبير بالتفاصيل، وأنتم تغرقون بالعموميات». وبدوره، كان الحزب ينصح كل زواره العرب والغربيين، بأن يحسّنوا سلوكهم في سوريا.
ـ مع جلاء الأوهام، وفي إطار السعي لإعادة الرئيس سعد الحريري، تم اجتراح فكرة ترشيح سليمان فرنجية الى الرئاسة. هذا يعدّل بعض المشهد السني في المنطقة، ويُبعد شبح عون. لم يتغير موقف السعودية. لا يزال عند ما قاله السفير السعودي السابق عبد العزيز الخوجة خلال اجتماعه بالسيد حسن نصرالله قبل انتخابات 2005: «ان عون بالنسبة للسعودية خط أحمر، لا مكان له في التركيبة الجديدة». هو كذلك بالنسبة لجنبلاط ورئيس المجلس نبيه بري، فلا بأس بفرنجية اذن.
ـ ما حصل مع الزعيم الشمالي، هو مجموعة أمور اختلط فيها سوء التقدير المؤقت من قبله مع بعض حسن التدبير المؤقت أيضا عند خصوم محور المقاومة. فلا يجوز ان يكتفي بإبلاغ السيد نصرالله بانه ذاهب للقاء الحريري وهو في المطار ويريد جوابا، ولم يسمع النصح بعدم اجراء مقابلة تلفزيونية كال فيها الاتهامات ضد عون ردا على اتهامات العماد عون، ثم أنه قدم 3 أوراق سابقة لأوانها تتعلق بالحريري والعائلة المالكة السعودية والسفير الأميركي دايفيد هيل (وهو صاحب فكرتي ترشيح فرنجية وقبله عون.. فتش عن السبب). وسرت شائعات عن تعهدات للحريري لم تكن مناسبة. ربما هي فعلا شائعات.
هل تغيرت صورة فرنجية عند دمشق والحزب؟ أكيد لا. هو لا يزال بنظرهما، «قياديا شريفا، صادقا ورجل مواقف». لا شك فيه وانما بمن رشحه.
لنستعد المشهد قليلا:
إيران تخرج من العقوبات. الجيش السوري وحلفاؤه يتقدمون. تركيا غارقة بحربها ضد «حزب العمال» وتتعرض لتفجيرات. العاهل الأردني يلاقي فتورا من أوباما ويكثف الاتصالات مع بوتين. تسريبات كثيرة حول نقل العرش في السعودية من الملك الى ابنه محمد وليس الى ولي العهد. الشرخ يزداد بين طهران والرياض بعد اعدام الشيخ النمر.
ما الذي يدفع إذا «حزب الله» لأي تنازل في الداخل اللبناني؟ ومن الذي يفرض شروطا، الحريري ام الحزب؟ لو فرضنا ان المحكمة الدولية ما عادت مهمة في سياق التفاوض كما يرشح عن بعض مسؤولي الحزب، كونها سقطت بذاتها، فماذا يبقى؟
تبقى 3 أمور أساسية: عدم المساس بالمقاومة، تنسيق كل الملفات قبل عرضها على مجلس الوزراء، وتغيير السلوك حيال سوريا.
البندان الأول والثاني كان الحريري قد تعهد بهما لـ «حزب الله» حتى بعد اغتيال والده.
يروي النائب حسن فضل الله في كتابه «حزب الله والدولة في لبنان» (ص147) التالي: «كان التفاهم السياسي مبنيا على الالتزامات التي جدد الحريري الابن التمسك بها كاستمرار لما التزم به الأب، وتعهد الرئيس المكلف تطبيقها، وفي مقدمتها بندان اساسيان: حماية المقاومة، والتفاهم على القرارات الأساسية قبل طرحها على طاولة مجلس الوزراء».
يضيف فضل الله (ص 146): «حين عرض سعد الحريري تولي فؤاد السنيورة لرئاسة الحكومة، وافق الحزب، بعدما حضر السنيورة الى مقر الأمانة العامة في حارة حريك وجدد التزامه بما التزم به الحريري، بل ذهب أبعد من ذلك في تقديم نفسه كقومي عربي مؤمن بالمقاومة وخياراتها ولم تكن وظيفة السنيورة في تلك المرحلة وفق الحريري نفسه سوى «تأدية مهمة محددة، فهو شخص أتولى تعيينه والقرار لي».
ـ مع إطلاق سراح ميشال سماحة، بدا في الأمر مؤشر إيجابي صوب سوريا. سارع السنيورة لاستعادة خطاب «القمصان السود». تحرك ما بقي من «14 آذار» صوب استنباط معجزة لتوحيد ما تفرق. هذا حقهم، لكن الواضح أن الرسائل لم تكن فقط لـ «حزب الله». لعل تلعثم الياس عطالله حين ذكر اسم «حافظ الأسد» بدلا من بشار في تظاهرة السبت، يوحي بالشبح المستعاد في ذهن خصوم محور المقاومة.
ما هي المقايضة المطلوبة اليوم؟
الأمر يبدو أكثر وضوحا من أي وقت مضى: تغيير السلوك السعودي والحريري حيال سوريا بما في ذلك التعاطي مع فكرة أن الأسد باق وان «حزب الله» سيستمر بالقتال الى جانبه.
قد يقبل الحريري بذلك وفق قاعدة المصالح، و «حزب الله» بحاجة الى شريك سني وازن.. أما الباقي فما عاد له كبير وزن. بانتظار ذلك، لن نتوقع لا رئاسة ولا رئاسة حكومة قريبتين.
وما هو مقبول اليوم، قد لا يبقى كذلك غداً.
صحيفة السفير اللبنانية