لبنان.. ريف القصير أم «جبهة النصرة»؟ (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

ما كان متوقعاً، لم يتأخر. حدث وفق ما كان يتخوّف منه اللبنانيون. التخوف لم يمنع حصوله. وما هو متوقع للأيام والشهور المقبلة، لن يتأخر. سيقع وفق ما هو مرسوم في الأذهان. الكارثة لن تخوف اللبنانيين الذين يتخوّفون من وقوعها.
لا يعود السبب في صدق التوقعات، إلى نبوءات أو هلوسة مخاوف، بل إلى كون الأحداث تأتي في سياقها الطبيعي، ويستحيل أن لا تحدث.
أخبار الشهور الماضية، حافلة بالتحذيرات التي أجمع عليها الأفرقاء اللبنانيون، المتنازعون المختلفون على كل شيء، والذين اتفقوا فقط على خوف انتقال الأزمة السورية إلى لبنان. وها هي قد انتقلت. الأزمة السورية راهنا، هي في سوريا، وتتقدم يوماً بعد يوم، لتصير من اليوميات اللبنانية الميدانية. نحن الآن، بتنا جزءاً من ريف القصير، وجزءاً من ريف دمشق.
ما كان كلاماً، صار سلاحاً. انخراط الأطراف اللبنانية في الأزمة السورية الطاحنة والمدمرة والمرعبة والمجنونة، بالكلام والمواقف، تحوّل إلى رفد للأزمة، بالسلاح والمقاتلين، ثم انخراطاً في المعارك.
التوقعات صدقت، للأسف الشديد، لأن ما يحصل، هو من طبيعة الأشياء، ولأنه يأتي في سياقه المنطقي وتسلسله المبرم. من كان يظن أن اللبنانيين سيكونون على حياد واهم ولا يرى أبعد من أنفه المتفائل، والذي يحسن الشم والظن، بلبنانية اللبنانيين.
طبيعي جداً أن يحصل انقسام بين اللبنانيين حول النزاع السوري. لأنه من الطبيعي جداً أن نلتفت إلى كون القاعدة الذهبية في لبنان، وفي نظامه، وفي قواه، هو تدعيم الانقسام الداخلي، بانقسام حول ما يحدث في الخارج. القانون الطبيعي اللبناني أفضى إلى نتيجة واحدة راسخة: «ما فرّقه اللبنانيون لا يجمعه إله». الانقسام اللبناني هو الشيء الوحيد الطبيعي في لبنان. لبنان المنقسم، هو الحالة الدائمة، والكلام على «الوحدة الوطنية» و«العيش المشترك» و«المصلحة العليا» و«بناء الدولة» (إلى جانب قاموس الاستهلاك السياسي الرسمي والطائفي) ليس سوى نشيد وطني كاذب لا يشبه أبداً، «كلنا للوطن».
من كان يظن أن «حزب الله» لن يتدخل في سوريا إلى جانب النظام، إما واهم أو مكابر أو مبرِّئ كاذب. لا يمكن لـ«حزب الله» أن يكون على الحياد. منذ البداية، كان النبهاء يعرفون ذلك ويتوقعون الانخراط أكثر، وفق ما تمليه عناوين الحرب وميادينها ومخاطرها ومآزقها.
القراءة الموضوعية لا يمكن أن تحيد عن السياق الذي تكرّس في التحالف المزمن بين المقاومة والنظام السوري ودولة إيران. لقد بدا هذا التحالف متيناً في كل الأزمات الإقليمية. فقيما كان معسكر «الاعتدال» يشن حربه على المقاومة، بالسياسة والإعلام والتواطؤ مرة، وبتوكيل أميركا واسرائيل مرة، كانت المقاومة تجد سندها في سلاحها ورجالاتها وفي ظهرها السوري وشريانها الإيراني.
هذه حقيقة من أركان وجود المقاومة. المقاومة لبنانية عن حق، ولكنها بثلاثة أقانيم، ومن يعرف العقيدة المسيحية، يدرك أن الله واحد بثلاثة أقانيم، ولا ينفصل. كذلك المقاومة، هي واحدة في ثلاثة. ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، تصلح للاستهلاك اللبناني. أما ثلاثية المقاومة، دمشق، طهران، فمن دونها لا مقاومة ولا فلسطين. ما توقعه اللبنانيون بلغوه، وصلوا إليه بجدارة الخوف والعقل معا… ولأن لبنان يشبه تاريخه، ومن يقرأه يعرف أنه من الطبيعي ان تكون قوى «14 آذار» بقيادة تيار المستقبل ذي الحاضنة السنية، ضد النظام السوري، ومندفعاً في تأييد المعارضة، أكانت سلمية أم مسلّحة. ولقد حصل ذلك من بدايات الأزمة.
من كان يظن أن الحاضنة السنية في لبنان لفريق «14 آذار» بتنوع تياراتها وجماعاتها وإماراتها ورجالاتها «وإداراتها»، لن تكون إلى جانب المعارضة، هو واهم أو غبي. إرهاصات هذه الحاضنة العدائية قديمة. تأكدت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإصرار هذا الفريق على اتهام بشار الأسد تحديداً بالاغتيال. ولقد حصّن هذا التوجه العدائي سوء أداء النظام السوري، وطريقة تعامله مع هذا الفريق وطريقة إدارته الفظة والشنيعة للملف اللبناني برمّته. ولقد دفع ثمن ذلك انسحاباً مذلاً من لبنان، لم تتبرع المقاومة بطريقة لمنعه. حصل الانسحاب والمقاومة تشاهد ذلك بصمت، وألزمها أن تحل مكانه في جزء من السلطة، لحماية ظهرها من الداخل اللبناني.
كل هذا مفهوم. ومفهوم إذاً، أن يذهب فريق «14 آذار» إلى دعم المعارضة وإلى المساهمة، مع من يتولى مهمة إسقاط النظام برموزه السياسية والعسكرية والأمنية.
كل هذا مفهوم وطبيعي، وبكل أسف كارثي.
كذبة النأي بالنفس عاشت طويلا، إلى أن سقطت في القصير وطرابلس والهرمل وعرسال وصيدا وهلم جراً، غدا وبعد غد.
أمس، دشن لبنان حقبة جديدة من مصيره المأزوم. ما كان مصاناً حتى الأمس القريب، بات على قارعة التفريط. آخر همّ المعنيين، حراسة السلم الأهلي، ما تحفل به اهتمامات المهتمين، هو التفرج على الانهيار التدريجي للسلم الأهلي.
لقد انتقلت الأزمة السورية إلى الميادين اللبنانية. طرابلس اللبنانية، سورية الهوى والأهواء. والرياح فيها متعارضة. ما يرسو في التبانة لا يشاطئ جبل محسن. والعجز تام. قادة الميادين يحكمون طرابلس. ولا أحد يتمتع بذكاء عادي، يتوقع أن تنتهي المعارك في طرابلس، التوقعات تفيد بأن طرابلس اليوم، بديل عن بيروت العام 1975، تاريخ بدء الحرب اللبنانية.
الصاروخان اللذان سقطا على الضاحية الجنوبية، أصابا لبنان كله بالسؤال اللعين: هل نحن في القصير؟ الرد على خطاب السيد في مشغرة جاء سريعاً. إذاً هناك تنظيم وبنية عسكرية تحتية منتشرة، خارج أماكن القتال. وإذاً أيضا، لبنان برمته قد تحوّل إلى غابة يتجوّل فيها السلاح والمسلحون، كأنهم في ريف القصير أو حلب أو دمشق.
ما كان يتخوّف منه اللبنانيون قد تحقق. لبنان غداً، لن يشبه لبنان المأزوم سياسياً والمصاب بعصاب العنف الموضعي في بعض أنحائه. الجديد، أن إرهاصات الكوابيس قد حلّت، وصور الأنبار والفلوجة وشيوع التفجيرات واقتراب «النصرة» من لبنان ثم انتقالها إلى لبنان، قد باتت توقعات جديدة.
يجب أن يتغير اللبنانيون. يجب ألا يخافوا بعد اليوم. عليهم أن يرتعبوا. إلا إذا كان كل ما جاء في هذه المقالة، كان مغلوطاً من الأساس وآمل أن يكون كذلك، ولكنه ليس.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى