لبنان ضحية الأوهام

 

ما وصل إليه لبنان من حال الإنهيار الشامل هو نتاج طبيعي لمجموعة الأوهام التي قام بالأصل عليها. وهي التالية:

  • وهم قيام لبنان الكبير. فالجنرال الفرنسي هنري غورو لم يفعل ذلك حُبّا بعيون الأرز وإنما بناء على مشروع تقسيمي واضح بين سورية ولبنان بعد تركة الأمبراطورية العثمانية. واعتمد في خطوته على لبنانيين وسوريين عاملين في الفلك الفرنسي، وبعضهم كان ، تماما كما اليوم، قد انتقل من الفلك العثماني الى الفرنسي كما يبدل قميصه.
  • وهم الاستقلال، فكيف يكون إستقلال، والعرفُ غلب الدستورَ وترك الطوائفَ المتنافسة ثم المتصارعة تُحطّم الحدود مرارا بحثا عن حليف خارجي ضد شريك الوطن. ثم صار العرفُ هو الدستور، وتم الدوس مرارا على الدساتير لتحيا دساتير الطوائف حتى بعد الطائف.
  • وهم “سويسرا الشرق” الذي ألصقَ بلبنان نظرا لسريّته المصرفية وليس فقط لجمال الثلوج على جباله، فكانت السرّية في الوطن، مطية لإثراء غير مشروع وغطاء شرعيا لثروات مافيا السياسة والمال التي نُهبت من الوطن والشعب. هذا النظام المصرفي الذي قام على مجموعة من رؤوس الأموال والعائلات اللبنانية والسورية والفلسطينية، هرب كاللص حين احتاجه الناس  وحين اكتشف فقراء الشعب  أنه نهبهم ( راجع كتاب الطبقات السياسية والأجتماعية في لبنان لفواز طرابلسي أو كتب كمال ديب).
  • وهم السيادة، فالقرار السيادي لم يكن يوما بيد اللبنانيين، وإنما قَبِل ساستهم أن يكونوا مطيّة للخارج. فكان تعيين معظم رؤوساء الجمهورية ورؤوساء الحكومات وابرز وزراء لبنان يتم بقرار خارجي، مهما تقلّب هذا الخارج ( راجع كتاب “أجمل التاريخ كان غدا” للرئيس إيلي الفرزلي).
  • وهمُ الطائفية. هذا أخطر الأوهام التي سعى زعماء الطوائف لاقناع الناس بوجوده. فمع كل حرب وقلق وخوف، ينبري الزعيم الطائفي كمخلّص ويقنع جماهيره ( كي لا نقول قطيعه) بأن الطائفي الآخر يريد أن يأكله. لكن في حقيقة الأمر فإن غالبية اللبنانيين كانوا غير طائفيين وتواقين للعلمانية .( يقول الباحث الألماني تيودور هانف الذي عمل 16 عاما لتأليف كتابه المهم جدا ” لبنان تعايش في زمن الحرب ” : إن 84 % من اللبنانيين كانوا مع العلمانية في السنوات 1981 و1984 ، ثم صاروا 87% عام 1986 ، لا بل وصلوا الى 93 % عام 1987، وهو يؤكد ان الطائفية هي عند زعماء الطوائف والمسؤولين الكبار وليست افقية بين الشعب) .
  • وهمُ الرفاهية: تعلّم اللبناني حبّ المظاهر. فقد يكون متواضع الحال ويشتري سيارة فاخرة ليراها جيرانه. وقد لا يملك ثمن الطعام ويشتري ثيابا تُرهق كاهله. وقد يحمل سيجارا بينما اخته تحتاج الى كتب مدرسية. كانت الرفاهية الحقيقية حُكرا على مجموعة قليلة من اللبنانيين ( يقال 7 الآف فقط) الذين كانوا يتنقلون من مكان الى آخر ومن مطعم وملهى الى مطعم وملهى آخر، وينثرون ثقافة لا تمت لحاجات الناس بصلة. تعلّم اللبناني التكبّر على العرب الآخرين والعنصرية والتعالي حتى على خادمات المنازل الفقيرات، وها هو يدفع اليوم ثمن أوهامه.
  • وهم المعرفة واللغات. ما زال كثير من اللبنانيين يعتقدون أن لبنان هو أفضل الدول العربية باللغات والثقافة والمعرفة. لم ينتبه كثيرون الى أن الكثير من الشباب الخليجي مثلا أو المغربي صار أكثر ثقافة وتعدد لغات نظرا للبعثات العلمية المجانية والكثيرة الى الخارج من تلك الدول بينما لم يتفضل أي مسؤول لبنان بتعليم الكثير من الشباب في الخارج سوى الرئيس الشهيد رفيق الحريري. لم تعد أي جامعة في لبنان بين الجامعات الأولى في العالم بينما نجد جامعات من السعودية ومصر وحتى الامارات صارت في الصدارة.
  • وهمُ اليسار والنضال: شغل هذا الوهم عشرات آلاف الشباب. وقاد الآلاف منهم الى الاستشهاد ضد إسرائيل أو في حروب الداخل، لكن ما ان دخلت ثروة الرئيس الحريري الى البلاد وتفكك الاتحاد السوفياتي، حتى انهار الكثير من هؤلاء أمام سطوة المال، وسال لعابهم مقرونا بالذل على ابواب الحريري، وباعوا افكارهم على مذبح الثروة ووظائف الدولة ، فتبين أنهم كانوا يساريين لعجزهم عن أن يصبحوا برجوازيين، وحين توفّرت فرصة البرجوازية نسيوا صراع الطبقات وكفاح العمال والفلاحين وصاروا يتباهون بثرواتهم وافراحهم وزفاف أولادهم . لم يبق من هؤلاء غير المخلصين الحقيقيين والمناضلين الصادقين.
  • وهم الدولة والمؤسسات. يُمكن الجزم اليوم وبكل ثقة، أن الدولة لم تقم في كل تاريخ لبنان. فلم يعرف اللبنانيون ( حتى في عصر الرئيس فؤاد شهاب والمكتب الثاني الذي دائما ما يُقدم على أنه الأفضل) فصلا للسلطات التشريعية والتتنفيذية والقضائية وغيرها. دائما كان يختلط الحابل بالنابل، وتوضع القوانين والتشريعات ليس لحماية الناس والعدالة والاستقلال وانما لخدمة المافيات السياسية والمالية التي تعيد انتاج نفسها كل مرة بصورة أبشع من السابق، تماما كسلالات كورونا.
  • وهم الإنتصار. انتهت الحرب اللبنانية منذ 30 عاما. ولم يعترف أي طرف حتى اليوم بأنه هُزم أو أساء أو أخطأ. قد نسمع تصريحا من هنا او هناك يتلو بعض فعل الندامة لكن ذلك يكون للتوظيف المرحلي، وليس في سياق مراجعة نقدية جذرية لتجارب حطمت الوطن، وساهم الجميع بها. فالجميع منتصر، لا بل كلمة ” مقاومة” تُستخدم عند كل الأطراف، فثمة من يقول انه هو المقاومة لأنه حارب العدو وانتصر، لكنه لا يذكر المقاومة التي سبقته الا اضطرارا، وثمة من يحتكر الصفة على أساس انه هو المقاومة الحقيقية لأنه  قاوم ” الاحتلالين السوري والفلسطيني”. الجميع منتصر.
  • وهم الانتخابات. لم يعرف لبنان في تاريخه. ولا مرة واحدة. انتخابات نزيهة. كلها كانت مُعدة سلفا ومفبركة ومزوّرة. ليس التزوير هو فقط ذاك الذي يتم عبر استبدال صناديق أو الحصول على أصوات الأموات والمهاجرين، وانما أخطره هي المحادل والتركيبات والصفقات والمؤامرات التي تحصل قبيل التصويت، فتأتي بمن تريد وتقتل من تشاء .
  • وهم الحرية. لم يعرف لبنان في تاريخه حرية حقيقية. صحيح ان أي شخص يستطيع ان يقول ما يشاء ويكتب ما يريد ويشتم من يعادي مهما كانت صفة هذا العدو الداخلي، لكن الصحيح أكثر أن هذه الحرية كانت وما زالت متفلتة من كل القيود، وهي بالتالي اقرب الى الفوضى منها الى الحرية المقوننة المحترمة. فكيف لا ينتهي الأمر بهذا المستوى من الترادح اللاخلاقي بين السياسيين والاعلام والناس.؟
  • وهم الاقتصاد المتين والليرة الثابتة. لم يكن في لبنان اقتصاد سليم ولا صحي. كان اللبنانيون يعيشون على الوهم. فلا الزراعة تهمهم ولا القطاعات الانتاجية متوسطة أو طويلة المدى. هم تعلّموا من وهم المصارف الربح السريع. كلهم كانوا يسارعون الى ما يدّخرونه في المصارف للحصول على فوائد عالية. بينما المافيا السياسية المالية كانت تضحك في سرّها، لادراكها بأن هذه الودائع الوهمية ستحقق أرباحا وهمية للناس ، بينما الارباح الحقيقية تصب في جيوب مجموعة قليلة من العائلات.

هذه الأوهام وغيرها هي التي قام عليها لبنان. وما نشهده اليوم هو ببساطة، انهيار الأوهام والعودة الى الواقع. وفي هذا الواقع  أكثر من نصف اللبنانيين فقراء أو عاطلون عن العمل، ومعظم الزعماء الطائفيين مستعدون لتدمير الوطن كي يبقوا على عرش الزعامة الطائفية….

لا شك أن مجموعات جيدة من اللبنانيين ( حتى ولو كانت قليلة حتى الآن) بدأت تعي بعمق خطر الأوهام، وتعمل وستعمل لشيء آخر تماما، هو حتما آت ، قصُرت المدة أو طالت. هذا هو الشيء الحقيقي الذي لا يقبل الوهم. الشعب سينتفض ويقلب كل هذه الأوهام.

خمس نجوم

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى