نوافذ

لحافنا السوري “ما أوجعنا”

محمد الحفري

 ” الأعلام والرايات تلف نعش من يموتون داخل الوطن فقط، أما الذين يموتون في الغربة والوطن بداخلهم، لهم راياتهم الخاصة، تلتصق طوال العمر بأجسادهم”

كلمات من رواية ” اللحاف” أو “سبعة أيام في حوث” للفنان والروائي السوري أيمن ناصر، وقد نجد فيها ضالتنا، ونعتقد أنها تعني كل سوري التحف غربته، وذاق وجع المنفى والبعد والتشرد والبرد والجوع، وقد تعني أيضاً أولئك الذين غرقوا في البحار وأصبحوا طعاماً لأسماكه، أو حصدتهم النيران فوق أرضنا، أو في أمكنة أخرى وهم يعبرون حدود هذه المعمورة.

وتلك الكلمات برأينا، تعبر عن حجم القهر الذي يعاني منه إنساننا، ونخص هنا القهر السياسي وتغول الأنظمة التي عربدت لوقت غير قليل فوق رقاب شعوبها.

أعترف أن الدموع قد سحت حارقة فوق وجنتي وأنا أقرأ رواية “اللحاف” وربما راودني أن ذلك البكاء مجرد شعور عابر قد يمضي كما يحدث عادة مع الكتاب الذين يتأثرون بمقطع، أو موقف مؤلم، لكن الأمر لم يكن كذلك، فقد تكرر معي ووجدتني أبكي بصمت حين طلب مني اتحاد الكتاب العرب تقديم هذا العمل لإعادة طباعته من جديد، وذلك لأنني أمام نص فيه الكثير من السحرية التي تمازج الواقع، وتتماهى معه من جهة، ولأنني اكتشف أشياء لم أكن أعرفها في السابق من جهة أخرى، والعمل الفني في نهاية الأمر هو كشف تفصيلات وعوالم وشخصيات وحيوات جديدة لم تكن بالحسبان، وهذا العمل برأينا يستحوذ على تلابيب القارئ منذ طرقته الأولى وصولاً إلى تلك الخواتيم الفجائعية في سطوره الأخيرة.

تجسدت قدرة الروي في شخصيتين رئيسيتين هما السوداني” سيد عثمان الغانم” ابن مدينة الخرطوم وتحديداً أم درمان، والسوري حمزة الحمداني ابن مدينة الرقة، والذي يعود مولده إلى مريبط،  ونرجح، أو لعلنا نجزم أن هذه الشخصية هي شخصية الكاتب ذاته الذي تلبس دور السرد والراوي الكلي العليم الذي يعرف إلى أين تسير الأمور، وهو ذلك الفنان الذي ما توقف عن ذكر مدينته وأهلها وعاداتها، وهذا التقابل قد يجتمع فيه ماء النهرين الذي جاء من ضفته كل منهما، ونقصد هنا النيل والفرات، كما يجمع بينهما ذلك الحزن الطافح والطافي على سطح كل منهما وكأن الأعماق تفور به، لتقذفه إلى أمكنة كثيرة، وقد برزت الثقافة العالية على كل منهما بعد أن تقاسما دور المثقف في الكثير من المطارح، وفيها نجد تلك اللحظات التي نفتح فيها أعيننا، لنجد الفاجعة ماثلة أمامنا، وعندها قد نجد أنفسنا نتماشى مع ما جاء في بعض مقولاتها طالما أن لكل منا موته الخاص، خوفه الخاص، وهاجسه الذي يجعله يرتعد من شيء ما، إضافة إلى جانب الأسطرة التي توغل في قدمها بعيداً، وقد حملها أحد أبطال العمل منقوشة فوق لحافه، وتلك التقابلات التي سطرها الكاتب، بدت مثل أعمدة شامخة يقوم عليها بناء عمارته الشاهقة

ومن سرديتها الجميلة نقتطف هذه الكلمات: ” لماذا تتراقص العصافير فرحة فوق سطح الذاكرة ؟ تنقر الحب من على ضفاف النعش الممتد بين حواف سريري وسريرك يا سيد؟ لماذا يركض أرنب بري في وهاد قلبي، وتقف يمامتان على حافة النافذة تأتلقان بضوء النهار؟”

ما نود التنويه والإشارة إليه أن الكثير من الكتابات قد توقعت وتنبأت بما سيحدث، ولكن أعين الساسة غفلت أو تغافلت ولم تقرأ وتقارن، وتعجل في تقديم الحلول.

بعد صدور روايتي التي تحمل عنوان ” العلم” بسنوات، وبعد جريان الأحداث نحو مزالق وعرة، هاتفني أحد الأصدقاء من مدينة الرقة، ليسألني عن سر معرفتي أن الرايات والأعلام ستحترق، وتتمزق وقد يرتفع غيرها؟ يومها بقيت صامتاً ولم أخبره أن المبدع هو من يستطيع أن يرى من خلال عينه السحرية ما هو خلف الجدار. أذكر هذا المثال ليس من باب التفاخر، أو التباهي، ولكن لأقول: ينبغي النظر إلى عيون أهل الإبداع والفن، والتأمل في بقايا دموعهم، فهي بالتأكيد تشير إلى شيء ما قد يحدث في القريب العاجل، أو بعد أمد بعيد.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى