نوافذ

لعنة الحدود | “أنت مكلف ياول؟ “

محمد الحفري

في مراحل الطفولة وربما مع بداية الشباب، لم نكن نعرف ماذا تعني كلمة حدود، ولم نحسب أنها ستصبح لعنة وتهمة تلتصق بنا مثل ظلنا وأعمارنا ومأكلنا ومشربنا، وقبلها كنا نعيش على ضفتي النهر من دون أن نشعر أن ثمة فوارق بيننا وبينهم.

أذكر جيداً ذلك الوقت الذي توقف فيه عمي بشكل مفاجئ عن الغناء وهو الذي يحب المواويل والعتابا ويمضي يومه في حركة ونشاط مستمر، وكان صوته يأتينا مرتفعاً تارةً ومنخفضاً تارةً أخرى.

أبي قال :”عمك لا يتوقف عن الغناء إلا حين يجوع , اذهب وعبي لنا مطرة الماء”

توقفت للحظاتٍ عند ماء اليرموك، أستمتع بمنظره المدهش وهو يجري منساباً دون توقف, ولحظاتٌ من الشرود والتأمل أخذتني وأنا أرى جمال الطبيعة من جبالٍ ووديانٍ وماء.

كان الصوت خشناً وغليظاً من الضفة الأخرى للنهر : “أنت مكلّف(1) يا ول ؟”

رُعبت وأنا أرى الرجل صاحب الصوت يرتدي الملابس العسكرية مسدداً بندقيته نحوي. أعاد السؤال مرّةً ثانية، والحيرة تأكلني, إن أجبته قد أتعرض للمساءلة من الجنود الذين يتمركزون خلفنا، وقد يصل الأمر إلى جهات أعلى, وإن امتنعت عن الرد قد يطلق عليَّ النار. قلت بصوتٍ خائفٍ وخفيض: “لا لست مكلفاً. أنا طالب مدرسة”

قال بصوتٍ غاضبٍ وآمر: “هيا بسرعة .عبي المي ، وانقلع من هنا” هذا النهر لم يكن يمنع أحداً من إقامة علاقات المودة بين الضفتين. كنا نتزاور فيما مضى , نذهب إليهم و يأتون إلينا , وهناك صلات رحمٍ ومصاهرة , ثم صرنا نُحاسب على أي التفاتةٍ أو حركة. الجنود على الضفتين قطعوا جذوراً تمتد إلى ماضٍ سحيق، والحدود، الوهم , أصبحت عبئاً ثقيلاً علينا.

أبي قال غاضباً:” الله يلعن هالعادة اللي فيك .عمري ما بعثتك على مشوار ورجعت بسرعة. اترك عادة التلبيد وصير نشيط ”  لكنه صمت بعد أن أخبرته بالأمر, هزَّ برأسه مراراً، وأوصاني أن لا أخبر أحداً.

العم حسين أخبرنا ونحن في طريق العودة إلى القرية أن أحد جنودنا اقترب منه قائلاً :”هيه .. أنت .. هس ولا كلمة، لا أريد أن أسمع صوتك ولا غناءك. الغناء ممنوع , ربما تستخدمونه من أجل التهريب”

كان حزيناً في ذلك اليوم , بدت التجاعيد على وجهه العابس أكثر من قبل , مشى على الطريق مطأطئ الرأس, ثم قال بعد فترةٍ من الصمت : “لم يعد للحياة معنى إذا لم نغني” وحديثه كان فيه الكثير من المرارة والقهر وقد ضرب كفاً بكف وقال : ” الله عليكِ يا دنيا ”

أي صعوبةٍ ومشقةٍ تلك التي كنا نعانيها في حياتنا اليومية والمعاشة ؟ الممنوعات كثيرة, وتدبير أمورنا ليس بالأمر اليسير، وقد زادتها الحدود تعقيداً والعمالة تهمة يمكن أن تتلبسنا في الأوقات كلها.

مرة اصطف ثلاثة من جهتنا، قابلهم أربعة على الضفة الأخرى وبدؤوا وكأنهم في مباراة :

ـ  من أنتم  من دوننا ؟

ـ تسألوننا يا أبناء كوهين ؟

ـ  نحن يا أذناب الإمبريالية ؟

كانوا مثل نساء مختصمات، يبدأن بالعتاب، ثم يصلن إلى اللعن وشد الشعر، فقد سارع أحدهم ليقول :

ـ سد ثمك  يا ول .

ولم يمهله الآخر بل رد مسرعاً:

ـ  انقلع من هون ولك .. تلحس .

وعلى ما يبدو أن الكلام لم يعد ممكناً عند ما خر طشت البنادق وتهيأت للإطلاق لولا تدخل الجنود الأقدم رتباً من الطرفين، ويبدو أننا قد تأثرنا بتلك الكلمات الكبيرة التي نطقوا بها والتي لا تسمن ولا تغني من جوع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – مكلّف : باللهجة البدوية تعني جندي، أو عسكري.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى