‘لعنة ميت رهينة’ .. الريف المصري بنكهة خاصة
لا يمكن اختصار قصة رواية قرية “ميت رهينة” البعيدة عن الحضارة، والمحتفظة بكنوز قبورها الفرعونية، المذهلة المطمورة، بما تراكم فوقها من تلال قمامة مترادفة في الطرقات والحواري، بأن الفلاح الشاب عبدالجبار أيوب الذي يحب الفتاة الساحرة الجمال هاجر يتسكع على حواف “ترعة المريوطية” يلتقي السائح السعودي أدهم الشواف ابن الأربعين عاماً، والمتزوج من السعودية رتاج، وله منها أربعة أولاد وبنات، والذي يمتلك أموالا طائلة تجعله قادراً على دفع مبلغ خيالي إلى عم لطفي مرجيحة – والد هاجر، فقط لشراء خاروف وشوائه، ليكون الغداء وسيلة لطلب يد ابنته الصغيرة الساحرة الجمال هاجر.
تماماً كما يفعل بعض السياح الخليجيين إذ يعجب أحدهم بفتاة صغيرة ساحرة الجمال، فيضع كل همه بأخذها للزواج منها، مما يصدم الشاب عبدالجبار أيوب الذي كان يحب هاجر ويريد الزواج منها. ولكن نقود هذا السعودي – حسب السرد – جعلته يفوز بها، فينتكس عبدالجبار الذي يقول إن نهدي هاجر الصغيرة قد تكورا بين يديه. ويضطر وهو الفقير، للعمل في أرض اشتراها أدهم لتكون مهراً لزوجته هاجر، مما جعل عبدالجبار يغتني باكتشاف الآثار في حفريات المزرعة، وبيعها للأجانب في السوق الحرة في بورسعيد، ومن ثم الاغتناء الفاحش بالتجارة بين بورسعيد وبين “ميت رهينة”. تجده يبيع الآثار بمبالغ فاحشة بالنسبة له، ولكنها رخيصة جداً إذا ما قورنت بقيمتها الفعلية، ويشتري للقرية مستلزمات مستوردة مثل راديو ترانزستور، أو مسجل أو ملابس مستوردة للنساء أو غيرها.
ولكن السعودي أدهم الشواف يذوي بعد سنتين من زواجه بالجميلة هاجر، ويموت بعد أن ينجب فتاة في منتهى الجمال، يسمونها ليلى، على حب الشاعر أدهم الشواف لقصة حب ليلى الأخيلية، فتكبر ليلى وتتخرج من الجامعة الأميركية في القاهرة، بعد زواجها من مدرسها الأميركي، وإنجاب طفلة أسمتها نور، وبعد اختفاء الأميركي، تعود إلى أمها هاجر بمفاهيم وسلوك أميركي، وتتجسر علاقتها مع زوجة والدها المتوفى أدهم وعائلته السعودية.
القصة مشوقة، والسرد ممتع، وسهير المصادفة كما عهدتها منذ روايتها الأولى “لهو الأبالسة”، تتقن صناعة السرد الروائي أيما إتقان، وتتقن سرد الهلوسات والخيالات اللامعقولة والأشباح والأرواح التي سنأتي إليها لاحقاً، وتمزج أحداث روايتها بيد فنانة ابنة مهنة، وتعرف كيف تخلق الصور المتحركة بكفاءة، تجعل القارئ لا يستطيع الإفلات من أوراق كتابها الروائي الممتع. تدهشك الساردة منذ بداية روايتها بقولها:
“الداخل إلى قرية ميت رهينة سائرًا على قدميه، وهو يشاهد على أرض أول عاصمة في تاريخ مصر القديمة، نسوة يحملنَ على رءوسهنَّ أكياس القمامة، أو دِلاء المياه المتسخة ليلقينها في ساحة معبد بتاح، سيقف ــ لا محالة ــ شعر رأسه وتنغرس قدماه في الأرض رافضتين مواصلة السير.”
وبنفس الطريقة تنغرس يدا القارئ في ورق الرواية – أقول هذا وأنا أقرؤها على الشبكة الحاسوب، وليس من نسخة ورقية، ورغم ذلك لا أستطيع مبارحتها – وتلتصق عيناه في كلمات الرواية، فلا يستطيع الفكاك من أحداثها المذهلة، ولا من معاجين حلويات السرد الروائي اللذيذ لسهير المصادفة.
أهم شخصيات الرواية هم؛ عبدالجبار أيوب ابن القرية، والسائح الغريب السعودي أدهم الشواف الذي بنى قصراً وصار مقيماً في القرية، الذي يوحي اسمه بأنه يداهم الأمكنة، ويشوف المخفي الأعظم، أي يحب أن يكتشف، خاصة الجميلات الصغيرات، وإحداهن هي الجميلة هاجر وابنتها منه، الأكثر جمالاً، ليلى التي أنجبت من الأميركي حفيدتها نور، وعم لطفي مرجيحة – والد هاجر، وكثير من شخصيات القرية أرادت الساردة أن تسميهم أسماء سلوكية، مثل؛ متولي الحرامي وعزوز بن بهانة، والشيخ برهامي النصاب، وآخرين.
في كثير من الروايات تطلق بعض الأسماء على سلوكيات أشخاصها، وهذا مناسب، ولكن هل يكون اسم عائلة أدهم (الشواف) صحيحا بالولادة؟ السؤال الخارج على النص هو:
“لماذا تأتي الأسماء الروائية في كثير من روايات الآخرين منذ ولادة الشخص مطابقة للسلوك؟ بينما نجد في الواقع شخصا اسمه كريم فيكون بخيلاً، وجميلة تكون في منتهى البشاعة، وهكذا..”
المشاهد التي تصورها الساردة معجونة بالرعب، كما هي معززة بالحلاوة، إذ نقرأ : “من يدخل قرية ميت رهينة سيقف ــ لا محالة ــ شعر رأسه وتنغرس قدماه في الأرض رافضة مواصَلة السير”.
ويكفي اسم القرية “ميت رهينة” ليدخل الرعب في قلب القارئ، ذلك لأنه يربط الموت مع الرهائن. فكيف يكون الجو في هذه القرية؟ خاصة إذا ما تابعت قولها: “ستجري خلفه أنصاف حلقات من الكلاب الضالة تنبح في شراسة..” كيف ستكون مشاعرك وأنت تزور هذه القرية وخلفك قطيع من الكلاب الشرسة تنبح مهاجمة.
وفي مكان آخر تقرأ: “يسمى قصر ليلى الشوَّاف، الشهير هنا بقصر الأشباح، أو قصر الأرملة، أو قصر المجانين، أو قصر المسخوطة..”
هذه الروائية قادرة على رسم صورها المعبرة عن الواقع، وذلك بتعبيرات غير عادية، بل مدهشة وذات دلالة، كأن تقول:
“كانت هاجر الذي عادة ما يلتقيها الشاب عبدالجبار في حقل الذرة وينشغل بتكوير ثدييها، فتكافئه بصدر إوزة محمَّر في الفرن، كانت قد لحقت رقبتها بالسكين منذ ساعتين، قبل أن يُزهق روحها مرض مفاجئ..”
ومن هذه الجملة نفهم أن أهل “ميت رهينة” لا يذبحون إوزة أو بطة أو دجاجة، إلا بعد أن يفاجئها مرض مميت، حيث لا دواء يعرفونه لها سوى لحاقها بالسكين.
في الرواية تشبيهات لغوية تدل على دراية سهير المصادفة بأهل الريف المصري وبقضاياهم، التي تدهش القارئ وتعرفه على فولكلور الريف المصري وثقافته، وتكشف له عن الصور المخزنة في ذاته، والتي لولاها لما استطعنا التنقيب عنها واكتشافها، حيث لا نستطيع اكتشاف قطع الآثار الموقوفة على سكان البيوت ليكتشفوها تحت أساسات بيوتهم، وعلى أصحاب المزارع الذين يحفرون هنا وهناك، فيصطدمون بآثار ذهبية وغير ذهبية قد تكون أهم بكثير وأغلى من الذهب الخالص. ومن هذه التشبيهات نقرأ:
“انتشرت جملة (عشرة يا لطفي) كما تنتشر النار في روث البهائم”. عشرة يا لطفي هي عبارة يغيظون بها والد هاجر، صاحب مرجيحة القرية، الذي يسمونه عم (لطفي مرجيحة) ويعتبرونه مقصراً جنسيا، ذلك لأنه تزوج امرأتين ولم ينجبا، فطلقهما، فتزوجتا، فأنجبتا من زوجيهما الآخرين عشرة عيال. وعبارة “انتشار النار في روث البهائم” تدل على أن النار قد تشب في هذه المواد المخزنة كوقود للطبخ والخبز وحاجات التسخين.
وعبارة تشبيه أخرى تقول: “يحاول الجري فيبدو كبطة عرجاء مقوسة الرجلين”، تشعرنا أن البط هو معلم من معالم هذه القرية.
وفي صفحة أخرى نقرأ: “جاءه يرتعش مثل الكتكوت المبلول في الفجر”، و”عيناها مثل خرمي الإبرة ضيقتان، وبشرتها بيضاء شاحبة مثل البرص..”
هذه التشبيهات تنبع من معالم القرية، وتعطينا نكهة الريف المصري وثقافته.. كأن نقرأ هنا: و”كانت تحب أدهم حبَّ الكلب لصاحبه.” لاحظ وفاء المرأة الريفية لزوجها، مثل وفاء العبدة للسيد، خاصة إذا كان الزوج فاحش الثراء، ويحضر لها كل ما تطلب..أو ما لا يخطر لها على بال، مثل السعودي أدهم الشواف. ونقرأ:
“تتلوى من الضحك الذي تُردد صداه خلفها العصافير.” لاحظ نغمات صوتها الساحرة. و”وجهه الممتلئ بالبثور والتجاعيد، وكأنه هارب من لقطة في فيلم أبيض وأسود عن مسخ قديم..” هذا تعبير (الفيلم القديم؛ أبيض وأسود) مكررة مرتين في الرواية، وحبذا لو لم تتكرر.
و”أكياس بلاستيكية فارغة يملؤها الهواء أحيانًا فتطير على رؤوس العباد، وتكاد تصطدم بوجه عبدالجبَّار فيهشها بعيدًا كما يهش ذبابة.” تشعرك هذه العبارة بجو الريف الملوث بالأكياس البلاستيكية والذباب اللدن. مع أن الريف يفترض أنه بعيد عن تلوث المدينة، بمصانعها وسياراتها، ولكن التلوث الريفي يحمل ملوثات مختلفة.
ونقرأ هذه العبارة الساخرة عن المرأة السمينة الكسولة: “عندما يشاء الله، يُكور لحمًا ويقذفه في وجوهنا فنسميه ظلمًا وبهتانًا نساء.”
وعن جمال العيون الساحر نقرأ: “ليلى عيناها واسعتان مثل فنجانين من الصيني مملوئين بالعسل.” و”تهتز عندما تمشي مثل غصن بان يتمايل في أوَّل الربيع.” و”تقهقه ليلى بضحكتها الطويلة التي لا يستطيع الإمساك بذيلها.” لاحظ أن طول الضحكة وميوعتها كأنه ذيل ملاك طويل تصعب ملاحقته والإمساك به.
وتصف جلوس المقهى مدخني الجوزة بالحشيش، بقولها: “يصيحون صيحات تشبه صيحات الذئاب، ويشخرون مثل ثور تحت سكين جزار. إذا ما نادوا بعضهم بعضًا، أو يقهقهون مطلقين صوتًا يشبه نهيق الحمير من دون أسباب واضحة.”
وهنا تصف أوزان الأشخاص السمان فتقول: “زاد وزن عبد الجبَّار حتى صار مثل نصف فيل..” سأتوقف عن التعليق.
وتضحكك بوصفها سمك نظارات طبية بقولها: “بنظارات زجاجها أسمك من قعر كوب الشاي.”
وعن مشاعر حب قاتل تقول: “يشعر بأنفاسها تلفحه من الخلف، فيغوص قلبه في قدميه” و”طرد عم لطفي عبدالجبَّار، كما ينش ذبابة لحوحة..” و”ضحكتها تشبه كثيرًا زقزقة سرب عصافير أطلقوا سراحه بعد حبس طويل.” و” كانت هاجر تتسرب من بين أصابعه كما يتسرب منها الماء..”
الشرح يطول.. ولا ننتهي من هذه الرواية المدهشة، إلا بمواصلة القراءة، والكتابة، عن روائية استطاعت أن تعيشنا في عالم ريفي مصري بنكهة خاصة، فنغرق فيه من رؤوسنا حتى أخمص أقدامنا.
ميدل ايست أونلاين