افتتاحية الموقع

لكِ الله يا بلاد الشام

ماهر عصام المملوك

لكِ الله يا بلاد الشام، من أين يبدأ الكلام وإلى أين ينتهي؟

هل من فلسطين وغزة الجريحة تحت وطأة الاحتلال وحصاره المميت، أم من سوريا التي أنهكتها الحروب والانقسامات وأدخلتها في دوامة لا تنتهي من الأزمات؟ أم من لبنان الذي يعيش على وقع الانهيارات المتتالية، الاقتصادية والسياسية، وتناحر الطوائف وتعقيدات الفساد المتجذر في بنيته منذ عقود؟

أم من شعوب المنطقة التي لا تعرف سوى المعاناة اليومية، وتترقب مستقبلًا أشد ظلمة من حاضرها المثقل بالهموم؟

الأسئلة كثيرة، والوجع واحد. لا جواب إلا بالعودة إلى دراسة معمقة لهذه المنطقة، لفهم خباياها المأزومة منذ القدم، إذ لم تعرف بلاد الشام استراحة حقيقية على مدى تاريخها الطويل. وكأنها محكومة بقدرٍ أبدي من الاضطراب والتنازع، بسبب موقعها الاستراتيجي الحساس الذي جعلها مطمعًا لكل القوى، الإقليمية منها والدولية.

فمنذ أكثر من ألف عام، شهدت هذه الأرض حملات صليبية متعاقبة، وغزوات التتار والمغول، وغيرهم من الطامعين في هذه الجغرافيا التي تصل الشرق بالغرب والشمال بالجنوب. ولم تكن هذه الحملات مجرد أحداث عابرة، بل كانت انعكاسًا دائمًا لصراع القوى الكبرى على هذه البقعة الغنية بالموقع والثقافة والتاريخ. لم يمنح القدر شعوبها فترة استقرار طويلة تتيح لهم بناء حضارة مستقرة تليق بإرثهم العريق، بل كانت كل فترة سلام قصيرة تُعَدّ استراحة محارب قبل عاصفة جديدة.

وما يزيد مأساة هذه المنطقة أن الطامع لم يكن دائمًا غريبًا. فحتى حكام بلاد الشام أنفسهم، على مرّ التاريخ، لم يرحموا شعوبهم. بدلًا من أن يكونوا حماةً للناس، أصبحوا في كثير من الأحيان أدوات للظلم والاستبداد، ينهبون ثرواتهم ويكبلونهم بالقيود تحت مسميات شتى: مرة باسم الدين، ومرة باسم القومية، وأخرى بذريعة الأمن القومي أو “المصلحة العليا”. وهكذا اجتمع ظلم الداخل مع استغلال الخارج، ليضاعف جراح المنطقة ويجعلها أسيرة دوامة لا فكاك منها.

وتبقى القضية الفلسطينية  المثال الأبرز على هذا الإرث المأساوي. فمنذ النكبة وحتى اليوم، ما زال الشعب الفلسطيني يعيش تحت احتلال غاشم، لا يعترف بحقوقه الأساسية. غزة، المحاصرة منذ أكثر من عقد ونصف، تجسد أقصى صور المعاناة الإنسانية: فقر، حصار، قصف متكرر، وانسداد الأفق السياسي. إنها مرآة لكل المنطقة، حيث تختزل في مساحتها الصغيرة مأساة كبيرة بحجم أمة.

أما سوريا، قلب بلاد الشام، فقد تحولت منذ عام 2011 إلى ساحة صراع دولي وإقليمي. دخلت في حرب مفتوحة مزقت نسيجها الاجتماعي، وشردت ملايين من أبنائها داخل البلاد وخارجها. تقاسمت القوى الكبرى مناطق النفوذ، بينما بقي الشعب السوري يواجه الفقر والدمار وفقدان الأمل. ومهما قيل عن حلول سياسية، فإن الحقيقة المريرة أن هذا البلد لا يزال أسيرًا لدوامة العنف والانقسام.

وفي لبنان، يبدو المشهد مختلفًا في الشكل، لكنه متشابه في الجوهر. بلد صغير، لكنه غارق في طائفية سياسية مزمنة، جعلت مؤسساته عاجزة عن إدارة أبسط شؤون الحياة. انهيار اقتصادي غير مسبوق دمّر العملة الوطنية وجرّ ملايين اللبنانيين إلى الفقر. كل ذلك يجري بينما النخب السياسية تتصارع على النفوذ والسلطة، غير عابئة بمصير شعبٍ يقف على حافة اليأس.

والقاسم المشترك في كل هذه الأزمات هو الشعب الذي لايعرف الاستراحة،فشعوب بلاد الشام لم تنعم عبر تاريخها الطويل بفترات سلام حقيقية، وإذا ما أتيح لها الاستقرار، كان هشًا وعابرًا. فهي تعيش منذ قرون تحت وطأة الأطماع الخارجية والتحكم الداخلي. ومع كل جيل جديد، يتكرر السؤال: هل يأتي الغد بما هو أفضل؟ لكن الإجابة، في الغالب، تبقى مؤجلة.

لكِ الله يا بلاد الشام. تاريخكِ ثقيل بالأوجاع، وحاضركِ مثقل بالتحديات، ومستقبلكِ يكتنفه الغموض. لكن، ورغم كل ذلك، تبقى هذه الأرض قادرة على النهوض. فقدرتها على البقاء بعد كل ما مرّ بها من حروب وغزوات واحتلالات ليست أمرًا عابرًا، بل دليل على عمق حضارتها وقوة شعوبها.

المطلوب اليوم ليس مجرد رثاء للواقع، بل دراسة معمقة تحلل جذور المأساة وتفكك عواملها. لعلّ هذا التحليل السريع يكون بداية لفهمٍ جديد، يقود إلى وعي جماعي يفتح بابًا للخروج من الدوامة.

وتبقى الخاتمة قاتمة فهل هي الاستسلام للقدر أم هي بأس ويزول بعزيمة اهل بلاد الشام الصبورين  ؟

فالتاريخ لا يُغيَّر بالرثاء، بل بالوعي والعمل. وحتى ذلك الحين، سيبقى الدعاء الصادق:

لكِ الله يا بلاد الشام.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى