للكلماتِ أجنحة…إنّ أولى الإشاراتِ التي تدلُّ على بدء دخولنا في مرحلةِ التعلّم الفعليّ تكون عندما نبدأ بتهجئةِ الكلمات. فبمجرّد انتهاء تلك العملية ولفظنا للحروف وراء بعضها البعض نجدُ بأنّ تلك الصّورة المجرّدةَ تنتقل إلى أدمغتنا مباشرةً فتقوم بمعالجتها وتحليلها إلى أن تكوّنَ لها معنىً مميّزاً تَهُزُّ له الرؤوس دلالةً على الفهم.
إنّ حياة الإنسان ما هي إلّا صفحات فارغة تنتظر أن تمتلئ بالكلمات لتعطيها معناها وسياقها. وما الإنسانُ سوى خلاصة ما يردّده لسانُه . وما تسمعه أذناه من هذه الكلمات طيلة عمره.
قد يقولُ البعض بأنّ هذا الكلام فيه مبالغةٌ كبيرةٌ وذلكَ أسوةً بالمثل الإنجليزي القائل بأنّ ” الأفعال أعلى صوتاً من الأقوال” . ولكن إن أردنا أن نفكّر بالأمر بتعمّقٍ سنخلُص إلى نتيجةٍ مفادها بأنّ الكلمةَ هي التي توجّه الفعلَ وتقوده. وبهذا لن يكون الفعلُ بأقل أهميّة من القول. ألسنا نوجّه أبناءنا بالكلمات، نحاسبهم بالكلمات، ونشجّعهم بالكلمات؟!
وهل هناك مرحلةٌ من مراحلِ التّربية إلّا وتكون الكلمةُ هي المعيارُ الفاصل ما بين بناءٍ وتدمير؟!
ألم تكن التّعاليم القرآنية المبعوثة إلينا مبتدئةً بكلمةِ “اقرأْ”. وما القراءة سوى شكل من أشكالِ التعامل مع مفردات الحياة. ومحاولة لتهجئةِ وفهمِ معانيها. ثمّ استخلاصِ أسمى وأنبل تلك المعاني التي ستنقذ الإنسان وتجعله فاعلاً في الأرض. ساعياً لخيرها وسلامها؟!
بعد هذا كلّه يمكننا أن نقول بأنّ عبارة “الأقوال قد تكون في مستوى صوت الأفعال. أو ربما أعلى منها” ليست بتلك السذاجة التي تبدو عليها. وممّا لا شكّ فيه بأنّ الكلمات لاتسمع بالآذان وحسب بل لها وقعٌ على النّفوس أعظمُ وأكبر.
للكلماتِ أجنحة .. الكلماتُ تنقذُ الأرواح المتعبة كما يفعلُ الدواء بالأجساد المريضة، كما أنّها الوقودُ الذي ينير مصابيحَ الطّريق إلى الأهداف العظيمة التي ينشدها الإنسان، فليس هناك من واصلٍ إلى نهاية الطريق إلّا وقد حملَ مبدأً سامياً وفكرةً وقّادةً في مصباحه ولم يخَفْ من إظهارِ وجهته والتمسّكِ بأحقّيتها بأن تمثُلَ أمام أعينِ الجميع دون رهبة.
ومع هذا كلّه لا يمكننا إنكارُ الحالةِ الوحيدة التي دائماً ما تلوّث للأسف. ذلك المنطق الواضح الذي يقرّ بالأثر بالغ الأهمية للكلمة في حياتنا. ألا وهي حالةُ الآذان المبتورة. تلك الحالة التي برغم شيوعها الكبير في عالمنا إلّا أنّها لا تبرّر لأحدٍ أن يبقي كلماته حبيسةَ القضبان دون أن يحرّرها. فبرغم كل شيء على الجميع أن يسلّمَ بقاعدة الفيزياء التي تقول بأنّنا إن وقفنا على سفح الجبل وصرخنا باتجاه الوادي لا بدّ وأن يتشكّل لصوتنا صدىً مهما كانت شدّته ضعيفة أو زمن بدئه بعيداً.
إنّ للكلماتِ أجنحةٌ قويّةٌ لا تكسرها الرياح ولا تعيقها المسافات أيضا. فهي قادرةٌ على الطيران عالياً إلى أمكنةٍ أبعد ممّا قد نتخيّل بكثير، لذا علينا ألّا نستهين بها وبقوّتها.
سلاماً على مَن يضعون كلماتهم في موازين العقل والقلب قبل إرسالها إلى أفواههم. وهم المدركون الحقيقيّون لأثرِ الكلمة ومسؤولية حملها والتلفّظ بها..
وسلاماً على مَن لا يرتضون بأن يبدّلوا الأجنحةَ التي تخفقُ بالحقّ بتلك التي يتنكّر بها الباطل كي يصل إلى العقول. ويملأها بالسموم التي تغذّي الفتن وتنشر الظلم في كل مكان.
سلاماً على مَن يخجلون أن يروا أنفسهم ضعيفةً بعد أن يكذبوا، صغيرةً بعد أن يزوّروا الحقائق، فلا يكذبون ولا يزوّرون وهم الأقوياءُ العِظامْ.
سلاماً على مَن ينادون الكلماتِ من أعماقهم فيفكّون جميع القيود الّتي تكبّلُ أجنحتها ثمّ يطلقونها إلى الأفق لكي تحلّق عالياً في البلاد الواسعة لتمدَّ الجسور في السّماء وتبني القصور على الأرض وتحيل الأرض القاحلة إلى بساتينَ مثمرة.