لماذا تتكاثر زيارات ولقاءات ماكرون مع القادة العرب في المَشرقِ والمغرب في الفترة الأخيرة..
بعد عُقودٍ من التّركيز على تعزيز نُفوذ بلاده في القارة الإفريقيّة، ومِنطقة السّاحل ودول الاتّحاد المغاربي على وجه التّحديد، بدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يُحاول تعديل البُوصلة، باتّجاه المشرق والمغرب العربيّين، فلم يترك مُؤتمرًا أو قمّةً أو جنازةً، إلا وشارَكَ فيها، ابتداءً من قمّة المناخ في شرم الشيخ ومُرورًا بالقمّة الفرنكفورنيّة بتونس، وانتهاءً بقمّة بغداد الثانية في الأردن، وبين الاثنين، زياراته للدّوحة لحُضور مُباريات فريق بلاده في بُطولة كأس العالم الكرويّة.
هُناك عدّة أمور تقف خلف هذا الحِراك واللّقاءات المُكثّفة على هامِشه للرئيس الفرنسي مع قادَة الشّرق الأوسط وشِمال إفريقيا، مع تركيزٍ خاص على مِنطقة الخليج:
الأوّل: تراجع النفوذ الفرنسي في القارة الإفريقيّة لمصلحة النّفوذين الصيني والأمريكي، خاصَّةً بعد الهزيمة ومن ثمّ الانسِحاب من مالي، ومِنطقة السّاحل، وتوتّر علاقاته مع كُل من الجزائر والمغرب نظرًا لسِياسات اللّعب على الحِبال ومُحاولة استِغلال الخِلافات بين البلدين تحديدًا، وهي سِياسات انتهازيّة أعطت نتائج عكسيّة حتّى الآن.
الثاني: تورّط القارة الأوروبيّة في حرب أوكرانيا، وحُدوث شُروخ في العلاقات الأمريكيّة الأوروبيّة، مع بُروز المحور الإنجلوسكسوني الثّلاثي الجديد (بريطانيا، أمريكا، وأستراليا) وتُقدّمه تدريجيًّا على حِلف الناتو والتّحالف الغربي الذي تأسّس في أعقابِ الحرب العالمية الثانية.
الثالث: بُروز أزمة الطّاقة بقُوّةٍ، والنّقص اللّافت في إمداداتها بسبب الحرب الأوكرانيّة، و العُقوبات الغربيّة على روسيا، الأمر الذي دفع فرنسا ودول أوروبيّة أُخرى إلى البحث عن أسواقٍ ومصادرٍ بديلةٍ للنفط والغاز الروسيّين، ومُواجهة أزَمات اقتصاديّة حادّة، واستنزاف مالي، وموجات هجرة جديدة.
السّؤال الذي يطرح نفسه بقُوّةٍ عن كيفيّة تعاطي الرئيس الفرنسي مع هذه التوجّهات الجديدة لبلاده، سواءً في المشرق أو المغرب، فهل سيَدخُل تعديلات جديّة في سِياسات بلاده تُجاه دول هذين الجناحين للعالم العربي، أم سيستمر في السّياسات القديمة، مع تعديلاتٍ تجميليّةٍ سطحيّةٍ، وهي السّياسات التي جعلت فرنسا مَكروهَةً في أوساط مُعظم الشّعوب والحُكومات في المِنطقة؟
ربّما من السّابق لأوانه إطلاق أحكام حازمة في هذا الصّدد، ولكن هُناك مُؤشّرات تُؤكّد اعتِراف السّلطات الفرنسيّة بوجود مُشكلة، وحتميّة البحث عن حُلولٍ سريعةٍ للإصلاح، وأبرزها الزّيارات المُتعدّدة، وغير المسبوقة، للرئيس ماكرون للشّرق الأوسط وشِمال إفريقيا، واستِقبالٍ لافتٍ لزُعماء المِنطقة في باريس.
لعلّ تأكيد الرئيس ماكرون في لقائه مع مُمثّلي ثلاث صُحف لبنانيّة تمّ نشر مضمونه اليوم الجمعة، على ضرورة تغيير القادة والزّعامات السياسيّة التي تُعارض الإصلاح في لبنان، وتضع العُقوبات أمام إعادة هيكلة للنّظام المالي، وانتِخاب رئيس جُمهوريّة ورئيس حُكومة نزيه يضعان هذه الهيكليّة ويُنفّذانها ويحظيان بتأييدِ الشّارع، إنها بداية، وإن خجولة، لتحوّل أوّلي للسّياسة الفرنسيّة، قد يكون له أثرٌ إيجابيّ، إذا كان جِديًّا، واستراتيجيًّا وليس تكتيكيًّا لامتِصاص حالة الغضب الرّاهنة تُجاه فرنسا ورئيسها.
على مدى العُقود الماضية، كانت فرنسا، وما زالت، الحاضنة الأدفأ للقِيادات السياسيّة الإقطاعيّة الفاسدة في لبنان، وتوفير الحِماية، والدّعم لها، وتبنّي السّياسات الأمريكيّة والإسرائيليّة لإضعاف لبنان وتجويع شعبه، وسرقة ثرواته النفطيّة والغازيّة، ودُونَ تغييرٍ جذريٍّ لهذه السّياسات والمواقف، ستكون فرنسا أحد أبرز الخاسِرين، وستفقد مكانتها كدولةٍ عُظمى في ظِلّ التّغييرات المُتصاعدة في المِنطقة والعالم، وتراجع الهيمنة الغربيّة لمصلحة نظام عالمي جديد مُتعدّد الأقطاب.
