لماذا تراجع الرئيس بوتين عن تعهده بـ”تصفية” بريغوجين قائد مرتزقة “فاغنر”؟
عبد الباري عطوان
تعاطي الرئيس فلاديمير بوتين “العقلاني” مع محاولة التمرد الفاشلة التي قادها “زعيم المرتزقة” يفغيني بريغوجين، لشق الجيش الروسي واغراق البلاد في حالة من الفوضى يثير العديد من علامات الاستفهام، فهذه “العقلانية” من قبل رجل مثله استخدم “القوة المفرطة” في سحق التمرد الشيشاني، ولم يتورع عن تسوية العاصمة الشيشانية (غروزني) بالأرض، وارسل قواته لاقتحام جورجيا، وانتزع اقليمين منها، ابخازيا واوسيتا، ليس لها أي مكان في قاموسه، ولا بد ان هناك “خطة مخفية” جرى اعدادها في احد غرف الكرملين المظلمة، لإجتثاث الخيانة والمتورطين فيها، ويجري التكتم بالتالي على تفاصيلها، وربما يتم الكشف عنها في الأسابيع والاشهر المقبلة.
الرواية التي طرحها اليوم الكسندر لوكاشينكو رئيس روسيا البيضاء، والحليف الأقرب للرئيس الروسي، وقال فيها انه “اقتع الرئيس بوتين بعدم تصفية ريغوجين رئيس مجموعة “فاغنر”، وعرض ان يمنحه “اللجوء” في “مينسك” عاصمة بلاده مع عدد من قواته، وهذا ما حصل امس الثلاثاء، هذه الراوية تحتاج الى “تمحيص”، وقراءة متأنية لما بين السطور، فلوكاشينكو نفسه يؤمن بالقبضة الحديدية في التعاطي مع الخصوم، وربما اكثر شراسة من حليفه الروسي، وصداقته مع زعيم “فاغنر” لا يغير مطلقا من هذه الحقيقة.
الرئيس بوتين وصف التمرد بأنه خيانة عظمى، الهدف منها إشعال فتيل الحرب الأهلية كمقدمة لتفكيك روسيا، وتعهد في خطابه الأول بـ”سحقه” دون رحمة، وشبهه بحالة الفوضى التي ضربت روسيا عام 1917 وقادت الى الثورة البلشفية، ولهذا فان تراجعه عن نواياه بالسحق، وبعد اتصال بينه وبين صديقه وحليفه لوكاشينكو يحتاج الى بحث متأن لمعرفة ما وراءه، والأسباب التي أدت اليه.
لوكاشينكو أماط اللثام عن بعض الغموض الذي يحير الكثير من المراقبين، ونحن من بينهم، عندما كشف ان الرئيس بوتين لم يكن مقتنعا بجدوى الحوار مع بريغوجين، وقال (اي بوتين) “انه لا فائدة من الحديث معه لأنه لا يرد على الهاتف، ولا يريد الحديث مع احد”، فهل هذا يعني ان قائد التمرد رفض الرد على اتصالات الكرملين، وقادة المؤسسة العسكرية الروسية، وخاصة وزير الدفاع الجنرال سيرغي شويغو؟ او حتى منعه غروره وغطرسته وتضخم ذاته من الرد على الرئيس بوتين شخصيا؟
لا شك ان التحلي بالعقلانية من قبل الرئيس بوتين في التعاطي مع هذه الازمة، وعدم التعجل في الإقدام على قرار “السحق”، خطوة ذكية، خاصة ان هذا التمرد جاء في وقت حساس وحرج تتمدد فيه المؤسسة العسكرية الروسية بنجاح للهجوم الاوكراني المضاد المدعوم من قبل الولايات المتحدة وحلف الناتو، ولكن السؤال الأهم: حتى متى تستمر هذه “العقلانية” من قبل رجل يتصف بالصلابة وقوة الشخصية، وسرعة الحسم، وعدم التسامح مطلقا مع الخونة، وهي الصفات التي مكنته، أي بوتين، من إعادة بناء الإمبراطورية الروسية، واستعادة مكانتها العالمية كقوة نووية عظمى تستند على اقتصاد قوي، وتوثيق تحالف مع الصين للإطاحة بالهيمنة الامريكية عن عرش القوة في العالم.
تمرد بريغوجين في اعتقادنا سيؤدي حتما الى تفكيك ميليشياته ولم ينجح في تفكيك روسيا، بغض النظر عن الأسباب التي دفعته للإقدام عليه، سواء كان “انتفاخه” الشخصي الكاذب، او التواطؤ والعمالة للمخابرات الامريكية والاوكرانية، خاصة ان هناك صلات “عقائدية” تربطه بالرئيس فولوديمير زيلينسكي، يتم التكتم عليها حاليا من الاعلام الغربي.
الرئيس بوتين الذي اعترف بأنه قدم مليار دولار دعما لبريغوجين ومجموعة “فاغنر” قد يقدم في الأيام القادمة على خطوتين رئيسيتين لإغلاق هذا الملف، وانهاء هذه الازمة:
الأولى: ان يشتري هذا المرتزق بريغوجين بالمال، ويوظفه بالتالي في اعمال “قذرة” في افريقيا وغيرها، وإبعاده كليا عن الحرب الأوكرانية، والشأن الداخلي الروسي، فالرجل، أي بريغوجين، متعطش للمليارات، وتحتل قمة تطلعاته وتتقدم على كل الاعتبارات الأخرى، وتشكل نقطة ضعفه،
الثانية: ان يقدم بوتين على “تصفيته” بعد ادانته بالخيانة العظمى، ارتكازا على نتائج التحقيقات الجارية حاليا من قبل المخابرات الروسية في الاتهامات الموجهة اليه بالعمالة للولايات المتحدة الامريكية، وهي تحقيقات كان سيرغي لافروف وزير الخارجية هو اول من تحدث عن بدئها.
تاريخ الرئيس بوتين، وإرثه السياسي والعسكري، وتجاربه السابقة في الحكم، كلها ترجح الخيار الثاني، أي التصفية، وفي الوقت المناسب، وربما قريبا، بعد هدوء الضجة، وانشغال الرأي العام الروسي، والاعلام الغربي بأمور أخرى.. والله اعلم.