لماذا كانت الهزيمة محـتّمة في حرب الأيام الستة؟
محمد صالح الفتيح*-
ما يزالُ النقاش يدور، من وقت إلى آخر، حول مجرَيات حرب الأيام الستة، وما سبقها، والهزيمة وأسبابها، وما إذا كان من الممكن تجنّب تلك الهزيمة يومها. حديثاً، طالعنا الدكتور كمال خلف الطويل بتصوّر افتراضيّ حول إدارة ناجحة لحرب 67.
تستندُ هذه الرؤية إلى بعض المراجع العسكريَّة لتقديم تصوّر افتراضيّ لإدارة مختلفة للحرب، من الجانب المصريّ تحديداً، بحيث يقودُ إلى انتصار العرب في تلك الحرب. تحاولُ هذه المقالة مناقشة أسباب الهزيمة انطلاقاً بشكل خاصّ من التصوّر الذي قدّمه الدكتور كمال. بدايةً، يمكن تلخيص رؤية الدكتور كمال كما يلي.
كان يمكن للحرب اتّخاذَ مسار مختلف عن طريق اتّخاذ مجموعة من الخطوات على ثلاثة محاور رئيسيّة:
1) سحبُ الطائرات المصريّة من مطارات سيناء الأربعة وإعادةُ توزيعها بين مطارات السودان وصعيد مصر.
2) تغييرُ معظم القيادات العليا للقطعات العسكريّة المنتشرة في سيناء بقياداتٍ أخرى أكثر كفاءة.
3) اتخاذُ مجموعة من الخطوات السياسيّة تشمل تحرُّكات لدى مجموعة دول عدم الانحياز والدول العربيّة والأمم المتّحدة عموماً، على أمل الوصول إلى حركة ضغطٍ سياسيّ على إسرائيل من ناحية مع قيام الدول العربية، السعودية على وجه الخصوص، بقطع صادرات النفط.
مع اعتذاري الشديد للدكتور كمال، ولكن هذه الخطوات ماكانت لتغيّر مسار الحرب، على الأقل ما كانت لتغيّره بشكل جذري، وذلك لأسباب كثيرة أسوقها في ما يلي ملخّصةً في ثلاثة محاور متناسبة مع المحاور الثلاثة التي ناقشها الدكتور كمال.
أولاً، إن تركيز التصوّرِ الافتراضيّ الذي قدّمه الدكتور كمال في إنقاذ سلاح الجوّ المصريّ هو تركيز صحيح تماماً؛ فإنقاذ سلاح الجوّ يومها كان يمكن أن يقود إلى تغييرِ مسار الحرب. ولكن الخسائر التي تعرّض لها سلاح الجوّ المصريّ ما كان من الممكن تجنُّبها بسهولة، على الأقل ليس من خلال إجراءاتٍ تتمُّ خلال الأيام القليلة السابقة للحرب. فمن ناحية أولى، إنَّ نقل سلاحِ الجوِّ المصريّ كان سيسبّبَ نكسةً معنويةً لا يستهان بها في صفوف المقاتلين. ثانياً، إنّ إعادة تموضع قطع سلاح الجوّ المصريّ هي خطوةٌ لا يمكن أن تتم، لأسبابٍ فنية وتعبوية، خلال يومٍ واحد. صحيحٌ أنَّ الطائرات المصرية القاذفة، من طراز «توبوليف 16» و«اليوشن 28» كانت قادرةً فعلاً من الناحية الفنية على الانتقال في يوم واحد إلى المطارات السودانية، ولكن هل كان السودان الغارق بمشاكله الداخلية يومها، والذي نجَتْ حكومتُه من انقلابٍ عسكريٍّ فاشلٍ نهاية عام 1966، ليوافق على مثل هذه الخطوة؟ وإن وافق السودان وجرى هذا الانتقال فهل كانت هذه الطائرات ستشارك في الحرب انطلاقاً من أراضي السودان أم أنّ هذا الانتقال يعني إخراجها من الحرب تماماً؟ أسئلة متعددة يصعب الجزم عند الإجابة عليها، والغالبُ أنّ هذه الطائرات القاذفة ستفقد دورها بالتصدّي للقوّات البريّة الإسرائيليَّة بسبب تفوُّق الطائراتِ المقاتلةِ الإسرائيليّة على المقاتلات المصريّة في نواحٍ كثيرةٍ أهمُّها المدى العمليّاتي.
فالمقاتلاتُ المصريّةُ، من طراز ميغ 17 و19 و21 وسوخوي 7، إذا ما نُقلت إلى مطارات الصعيد فهي ستصبح عملياً خارج المعركة لكون معظم المطارات المصرية في الصعيد تقع على مسافاتٍ تزيد عن 500 كم عن مواقع العمليّات في وسط سيناءَ ومثل هذه المسافات تعني أن الطائرات المصريّة لن تكون قادرةً على الانطلاق إلى سيناءَ وتأمين الأجواء هناك بسبب قصر مداها. أدركت مصر هذه الحقيقة بعد الحرب وظهر ذلك، على وجه الخصوص، في حادثتين اثنتين. الأولى عندما نصح عبد الناصر العقيد القذّافي بضرورة اقتناء الميراج الفرنسيّة لأن مداها أكبر من مدى الطائرات السوفياتيّة المتوافرة آنذاك؛ يومها فعل القذّافي ذلك وغضب الاتّحاد السوفياتيّ من عبد الناصر. والحادثة الثانية هي في حرب السادس من تشرين 1973 حيث اقتصرت العمليّات العسكريّة البريّة المصريّة على شريطٍ عمقه حوالى 20 كم شرق القناة، وذلك لكي لا تصبح القوات البريّة تحت رحمة القوّات الجويّة الإسرائيلية، كما حصل فعلاً، لاحقاً، عندما خرجت القواتُ البريّة من تحت مظلة حائط الصواريخ باتجاه المضائق. أي أنّ الطائرات المصريّة، وباستثناء بعض البطولات الفرديّة الاستثنائيّة، لم تكن أبداً، لا في حرب 67 ولا في حرب 73، قادرة على تأمين سماء المعركة بالشكل المطلوب.
ومن الجدير بالذكر أيضاً أنّ ما استُهدف في اليوم الأول في حرب 67 لم يكن مطارات سيناء الأربعة فقط، بل جرى أيضاً استهداف سبعة مطارات أخرى تتوزّع بين غرب قناة السويس والصعيد. إذاً ما كان ممكناً فعله يومها هو تحييد سلاح الجوّ المصريّ عن طريق وضعه في المستودعات فقط، علماً أن جميع القواعد الجويّة المصرية كانت تفتقر يومها إلى الملاجئ الإسمنتية المقاومة للضربات الجوية وكانت الطائرات ستبقى إمّا في العراء أو داخل هنغارات معدنيّة غير محصّنة.
أمّا سلاح الجوّ الإسرائيليّ فكان يعتمد، عشيّة الحرب، على طائرات فرنسيّة الصنع من طرازات «ميستير» و«سوبر ميستير» و«فوتور» و«ميراج 3» الفرنسيّة التي برز تفوقُها على الطائرات السوفياتية، وخصوصاً لناحية المدى العمليَّاتي. وهذا ما فسَّر كيف أنَّ الطائرات الإسرائيليَّة كانت قادرةً على التحليق وضرب أهدافٍ تبعد حوالى 600 كم من أراضي الدولة العبريّة والعودة بسلام، كما ظهر مثلاً عندما استُهدفت قاعدة H3 العراقية في اليوم الأوّل من الحرب. إضافةً إلى الفرق التقني بين طائرات الخصمين، كانت كفاءةُ الطواقم الجويّة المصريّة، والعربيّة عموماً، أقلّ بكثيرٍ من نظيراتها الإسرائيلية. وظهر التفوق الإسرائيلي على وجه الخصوص في عنصر التدريب الذي مكَّن إسرائيل، التي لم تكن تملك يومها سوى حوالى 200 طائرة مقاتلة، في مواجهة أكثر من 900 طائرة مقاتلة لدى مصر وسوريا والأردن والعراق، من تأهيل طواقمها الجويّة والأرضيّة بطريقة سمحت لسلاح الجوّ الإسرائيليّ من تنفيذ أهداف وعمليّات تحتاج إلى 500 طائرة مقاتلة على الأقل.
يدركُ مخطّطو العمليات العسكريّة أنّه لا يمكن لجيش ما أن يزجّ في المعركة، في لحظة واحدة، أكثر من 20 إلى 50% من مجموع الأسلحة المتوافرة في وقتٍ واحد، وذلك لأسبابٍ فنيةٍ ولوجستيَّة. المصريُّون كانوا قادرين على زجِّ 30% من طائراتهم في اللحظة نفسها. تجاوز الإسرائيليون ذلك وقاموا بزجِّ أكثر من 90% من سلاح الجوِّ لديهم في اللحظة ذاتها، حيث كانت جميع الطائرات الإسرائيليّة المئتين تنطلق في الوقت ذاته لتستهدف المواقع العربيّة. ومن ناحية أخرى، كانت معايير حلف الناتو، في ذلك الوقت، تقول إنّ الطواقم الأرضيَّة تحتاج إلى حوالى ستين دقيقة لكي تقوم بإعادة تجهيز الطائرة المقاتلة لكي تصبح قادرةً على تنفيذ عمليّة جويّة جديدة (يقصد بالتجهيز إعادة تزويدها بالوقود والذخيرة وتفحُّص المحركات والأجزاء المتحرّكة في الأجنحة والزعانف وباقي المعدات) وبالتالي فإنّ العدد الأقصى من العمليّات الجويّة الممكن للطائرة الواحدة أن تنفّذه في يوم واحد هو ثلاثة فقط. استطاع سلاح الجوّ الإسرائيليّ تدريبَ طواقمه الجويّة والأرضيّة بحيث خُفّض زمن إعادة تجهيز الطائرة إلى حوالى 6 إلى 8 دقائق فقط وبهذا أصبح من الممكن لسلاح الجوّ الإسرائيليّ تنفيذ ما يصل إلى 5 أو 6 طلعات جوية للطائرة الواحدة في اليوم الواحد؛ وبتشغيل كامل سلاح الجوّ على هذا المعدَّل ظهر بأنّ إسرائيل قد هاجمت العرب بخمسمئة طائرة. على الأقلّ هذا ما صدّقه المصريّون حيث يذكر محمد حسنين هيكل «أنه بجهد 492 طائرة مركزة في ثلاث موجات – كان مصير معركة سيناء 1967 قد تقرّر فعلاً» (حرب الثلاثين سنة الانفجار 1967، صفحة 710). كانت هذه قناعة المشير عبد الحكيم عامر وهذا ما دفعه إلى القول إنّ الولايات المتَّحدة هي من شنّ الهجوم الجويّ وذلك لاستحالة حصول هذا العدد من الهجمات من قبل إسرائيل. ولكن المشير عامر كان مخطئاً فلم يكن ما حصل مستحيلاً، بل كان مجرد تدريب جادّ واظبت عليه إسرائيل منذ عام 1964 تحضيراً للعمليّة التي عُرفت بالعبريّة باسم «موكد» أو العمليّة Focus والتي نُفّذت صباح 5 حزيران وأدَّت إلى تدمير 80% من سلاح الجوّ المصريّ ومدارج جميع المطارات المصريّة الأحد عشر الواقعة في مدى العمليّات. تدمير المدارج المصريّة عنى أيضاً أنّ مصرَ لن تكون قادرةً على الاستفادة «فوراً» من الطائرات التي «قد» تُقدّم لها من الدول الصديقة.
ثانياً، تصدق المقولة الشهيرة «للنصر آباء كثيرون بينما الهزيمة يتيمة» في حالة حرب الأيام الستّة. فتغيير القيادات العسكريّة المصريّة عشيّة الحرب، أو حتّى قبلها بستّة أشهر كاملة، ما كان ليغيّر شيئاً في مسار الحرب. فالخطّة الإسرائيليّة التي وُضعت يومها لم تكن تهدف فقط إلى هزيمة القوّات المصريّة عند الأطراف الشرقيّة لسيناء، بل كانت تهدف إلى أخذ سيناء كاملة. والثابت أنّ قوّات المظليّين الإسرائيليّة قامت ومنذ ليلة 5/6 حزيران بالعديد من العمليّات خلف خطوط القوّات المصريّة، وفي العمق، ونجحت بتحييد مرابض مدفعيّة وتخريب مستودعات ذخيرة ووقود وغير ذلك. تنفيذ مثل هذه العمليّات منذ اليوم الأوّل للحرب كان يعني بوضوح أنّ الهدف ليس مجرّد إقامة شريط أمني على امتداد حدود إسرائيل، على نمط الشريط الأمنيّ في جنوب لبنان لاحقاً، بل كان الهدف الاستيلاء على كامل شبه جزيرة سيناء. وللتذكير فإنّ العمليّات الإسرائيليّة في حرب عام 1956 كانت قد بدأت بشكلٍ مشابهٍ عندما استولت قوّاتُ المظليّين الإسرائيليّة على «ممر متلا» الواقع على بعد حوالى 50 كم شرق قناة السويس يوم 29 تشرين الأوّل 1956 ثم استمرت القوات الإسرائيلية بالتقدّم عبر سلسلة من عمليّات الإنزال ثم الاجتياح البري لتصبح على بعد 15 كيلومتراً شرق القناة يوم 2 تشرين الثاني ولتكمل سيطرتها على كامل شبه الجزيرة باستيلائها على شرم الشيخ صباح يوم 5 تشرين الثاني. بقيت سيناء يومها تحت سيطرة الإسرائيليين حتى مطلع شهر آذار 1957 حيث انسحبت وحل محلّها قوّات الطوارئ التابعة للأمم المتّحدة التي أمّنت الحدود المصريّة الإسرائيليّة للسنوات العشر التالية. في حرب عام 1956، استولت إسرائيل على كامل سيناء خلال 8 أيام بالاعتماد على مساندة سلاحي الجوّ البريطانيّ والفرنسي، وفي حرب عام 1967 استولت إسرائيل على سيناء بالكامل ولكن خلال 6 أيام هذه المرة وبالاستعانة بسلاح الجوّ الخاص بها.
إذاً يمكن القول والجزم إنّ تغيير القيادات العسكريّة لم يكن كافياً لوحده لمنع تكرار سيناريو عام 1956؛ خصوصاً أنّ الجيش الإسرائيليّ قد حرص على التحضير للحرب ووضع خرائط التقدّم في سيناء قبل الحرب بسنتين على الأقل بينما يذكر لنا التاريخ أن الجيش المصريّ لم ينتشر في شرق سيناء إلا قبل الحرب بثلاثة أسابيع، بعد أن طلب من قوّات الطوارئ الدولية الانسحاب لينتشر بدلاً منها اعتباراً من يوم 14 آيار 1967. كان اللافت هنا أنّ القوات المصريّة، المنتشرة على عجالة، تركت مساحات كبيرة حول المواقع التي انتشرت فيها من دون تغطية، وذلك بسبب الاعتقاد أنَّ هذه الأراضي، وخصوصاً مناطق الكثبان الرملية، لا يمكن انتقال العربات العسكريّة عبرها. ولكنّ إسرائيل كانت قد وضعت خططها لكي تعبر من خلال تلك المناطق تحديداً لتهاجم القوّات المصريّة من الجانب أو من الخلف. ورغم أن القوات المصرية كانت تتفوّق بعدد الأفراد والمدافع والدبابات على نظيرتها الإسرائيليّة التي كانت تعتمد بشكل كبير على دبَّابات «سنتوريون» و«شيرمان» التي تعود إلى أيَام الحرب العالميَّة الثانية والقليل من دبّابات «إم 48» الأميركيَّة الأحدث نسبياً، إلا أنّ الإسرائيليّين، الذين يؤمنون بمقولة «الدبَّابة الأفضل هي تلك التي تمتلك الطاقم الأفضل»، ركَّزوا في تدريب طواقمهم تدريباً عالياً وخصوصاً على الرماية بعيدة المدى بحيث أصبحت الطواقم الإسرائيلية قادرةً على تحقيق إصابات مباشرةٍ من مسافاتٍ تصل إلى 2000 متر، ومن حالة الحركة وليس التوقف فقط، وهذا يتفوق بكثير على قدرات الطواقم المصرية؛ أي أن الدبابة الإسرائيليَّة كانت قادرةً على إصابة الدبابة المصرية قبل أن تصبح هي نفسها في مرمى مدفع الدبابة المصريَّة. هذا ما أمَّن النصر لطواقم الدبَّابات الإسرائيليَّة، خصوصاً مع دمج هذه المهارة بمعرفة طبيعة الأرض التي سمحت للإسرائيليين بالالتفاف والهجوم من الخلف والجوانب. ظهر تأثير هذين العاملين على وجه الخصوص عندما اشتبكت الدبّابات الإسرائيلية بقيادة الجنرال «أفراهام يافي» مع دبّابات الفرقة الرابعة المصريّة في «بير لحفان»، جنوب العريش، إذ خسر المصريّون أكثر من 80 دبابة في تلك المعركة لوحدها رغم أنّ نسبة الدبّابات المصريّة إلى الإسرائيليّة كانت 2 إلى 1. هذان العاملان، أي الهجوم من جهة غير متوقّعةٍ والضرب من بعد، كانا أيضاً سبب انتصار الدبّابات الأميركيّة على الدبّابات العراقيّة في معركة «تشريق 73» خلال عملية تحرير الكويت لاحقاً. أمَّا بالنسبة للقول إنّ الانسحاب من المواقع في شرق سيناء والتمترس في مضائق سيناء كان كافياً لمنع الهزيمة الشاملة، فهذا ليس صحيحاً تماماً، خصوصاً إذا تذكّرنا أنّ القوّات المصريّة المنسحبة مع نهاية اليوم الثاني للحرب قد تمّت إبادتها في منطقة المضائق عن طريق سلاح الجوّ الإسرائيليّ، الذي استخدم قنابل «النابالم» بكثافة. منطقة المضائق كان يمكن أن توفّر الحماية من الدبّابات ولكن ليس من الطيران الإسرائيلي.
ثالثاً، إن النقطة الأساسيّة في المحور الثالث من السيناريو الافتراضيّ الذي يقدّمه الدكتور كمال هو أنّ الإجراءات المذكورة في المحورين السابقين ستضمن تقليل حجم الخسارة العسكرية في سلاح الجوّ والقوّات البرية المصريّين. ولكن هذا مستبعد للأسباب التي شرحناها أعلاه. وبالتالي لا مبرِّر منطقيَّ لمناقشة كلِّ تفاصيل المحور الثالث من سيناريو الدكتور كمال. ولكن على أيِّ حال، إنَّ الافتراض أنَّ الدول العربيّة، وعلى رأسها العربيّة السعوديّة، كان يمكن أن تقوم بتدخّل ما لإنقاذ الوضع، وأنه ما كان ممكناً لفيصل تجاهل طلب عبد الناصر، فهذا الافتراض أيضاً غير دقيق. فعبد الناصر وفيصل كانا قطبين متضادين في الفترة التي سبقت الحرب. أما بعد الحرب فإنّ مسارعة فيصل إلى دعم مصر، وباقي دول الطوق العربي، يعود بالدرجة الأولى إلى أنّ القدس قد وقعت في يد اليهود أكثر من أنّ الأنظمة القومية العربية، في مصر وسوريا تحديداً، قد تعرّضت لهزيمة. ومن الجدير بالذكر أنّ القوّات البريّة الإسرائيليّة بدأت التقدّم باتجاه شبه جزيرة سيناء بعد نصف ساعة فقط من انطلاق الموجة الأولى من الطائرات الإسرائيليّة لضرب المطارات المصريّة في حين أنّ القوّات الإسرائيليّة لم تتقدّم باتجاه مواقع القوّات الأردنيّة في الضفّة الغربيّة إلا بعد ظهيرة اليوم الأوّل للحرب وربّما يعود ذلك إلى إدراك حجم الهزيمة المصريّة. أي أنّه لو استطاعت مصر امتصاص الضربة الإسرائيليّة في الساعات الأولى للحرب لما كانت إسرائيل قد هاجمت القدس أساساً وبالتالي لما كانت العربيّة السعوديّة قد شعرت أساساً بواجب القيام بشيء ما لمناصرة دول الطوق. كان سقوط القدس هو الدافع الأهمّ ولكن إسرائيل لم تأخذ القدس إلا بعد أن تيقنت أنّ القوّات العربيّة قد هُزمت تماماً وبالتالي ما عاد من الممكن إعادة جمع اللبن المراق.
تعليق أخير
إنّ غياب الغطاء الجويّ، على أيّ حال، لا يقود بشكل حتميّ إلى خسارة الحرب البريَّة، بل إنّ الفوز بالمعركة البريَّة مرتبطٌ بالدرجة الأولى بإرادة القتال لدى الجنود والقادة، وظهر هذا بشكلٍ واضحٍ في معركة سلطان يعقوب، التي نعيش هذه الأيام ذكراها الثانية والثلاثين. في عام 82 ظهر التفوقُ الجويّ الإسرائيليُ فوق سماء لبنان وخسر الجيش السوريّ عدداً كبيراً من الطائرات ومنصّات الدفاع الجوي، ولكن قوّات المشاة والدبّابات السورية استمرّت بصدّ التقدُّم الإسرائيليّ في مناطق متفرّقة أهمها على الإطلاق معركة سلطان يعقوب. كانت إرادة القتال يومها، إضافة طبعاً إلى وجود التدريب المناسب، هو ما ضمن النصر وضمن إيقاف تقدُّم القوَّات الإسرائيليَّة في سهل البقاع. أثبتت الأحداثُ التاريخيَّة أنَّه من الممكن هزيمة الجيش الإسرائيليِّ وتحطيم أسطورة الجيش الذي لا يهزم. ولكن مثل هذا الإنجاز يتطلَّب وضع خطَّة تشمل في تفاصيلها معرفة قدرات الخصم وتكتيكاته وجمع كل المعلومات الاستخبارية الممكنة وفي الوقت نفسه منع الخصم من الحصول على معلوماتٍ استخبارية عن قواتك. هذا ماحصل لاحقاً في حرب السادس من تشرين الأول 1973 وهذا ما فعلته تحديداً المقاومة الإسلامية في لبنان لكي تضمن النصر عندما توقَّعت الخطط التي ستنفذها القوَّات الإسرائيليَّة وأنواع الأسلحة التي قد تستعملها فأعدَّت العدَّة لحماية منصَّات صواريخها ومستودعات أسلحتها ومقارها من الضربات الجوية، فتمكنت من تقليل أثر سلاح الجوِّ الإسرائيليِّ، وقامت أيضاً بنشر الأسلحة المضادة للدبَّابات بالشكل المناسب لإيقاع الهزيمة بالميركافا، فتمكنَّت هكذا من تحييد أثرِ سلاحِ المدرَّعات الإسرائيلي.
أما مقتلُ المصريِّين في حرب الأيَّام الستَّة فيعود إلى غياب الخطَّة. وحتى لو أردنا تجاوز الفارق النوعيِّ في التدريب وافترضنا تماثل النوع في السلاح، فإنَّ الهزيمة كانت قدراً محتَّماً يومها، فالقوَّات المصريَّة دخلت سيناء من دون خطَّة عسكريَّة مسبقة وبقيت منتشرة هناك لثلاثة أسابيع كاملة فلا هي هاجمت ولا هي استعدَّت لصدِّ الهجوم بالشكل المناسب. إنَّ انتشار القوَّات المصريَّة في سيناء لم يكن يهدف إلى تحقيق هدفٍ سياسيٍّ واضح؛ والقول إنَّ الهدف يومها كان ردع إسرائيل عن القيام بعملٍ عسكريٍّ واسعٍ ضدَّ سورية هو قولٌ غير دقيقٍ فمصرُ سحبت قوَّات الطوارئ الدوليَّة وأغلقت مضائق تيران بوجه الملاحة الإسرائيليَّة وأصبحت مصرُ هي من يقوم بتسخين المنطقة وكان واضحاً ومتوقَّعاً أنَّ الحرب آتية لا محالة، ولكن لم يكن لدى مصرَ خطَّةً واضحةً للمرحلة التالية. وحتَّى إن كان الهدف هو استيعاب الضربة الإسرائيليَّة فالسؤال هو ماذا كانت الخطَّة لليوم التالي – بافتراض نجاح مصر بامتصاص الهجمة الإسرائيليَّة؟ هل كانت القوَّات المصريَّة لتهاجم إسرائيل؟ أم تكتفي بإيقاع خسائر فادحة في صفوف الإسرائيليِّين، بشكلٍ أشبه بتقليم الأظافر، ويكون الهدف الإجمالي هو إعادة عقارب الساعة إلى ماقبل العام 1956؟ لم أجد في مرجعٍ عسكريٍّ عربيٍّ أيَّ روايةٍ منطقيَّةٍ متكاملةٍ حول ما كانت مصر تنوي فعله إذا ما صدَّت الهجوم الإسرائيليَّ وهذا يشير إلى أنَّه لم يكن هناك غالباً تصوُّرٌ لما سيحصل في اليوم التالي. من ناحيةٍ أخرى، لعلَّ الإخفاق المصريَّ الأكبر كان في الجانب الاستخباراتيِّ حيث عجزت مصر عن اكتشاف النيات الإسرائيليَّة المبيَّتة منذ عام 1964 رغم أنَّ مئات الطيَّارين الإسرائيليِّين كانوا يتدرَّبون طوال تلك الفترة على استهداف المطارات المصريَّة. باختصار، مصرُ قادت الأمَّة يومها إلى معركةٍ خطَّط لها العدو ولم تخطِّط هي لها ولم يكن لديها تصوُّرٌ حول ما سيحصل لاحقاً حتى إذا ما كُتب لها النصر بطريقةٍ ما. كانت هذه وصفةً كاملةَ الأركان لهزيمةٍ أكيدة.
* كاتب سوري
صحيفة الأخبار اللبنانية