شرفات

لماذا كنا نخاف ، ولماذا صرنا نخاف ؟!

عماد نداف

قال الرئيس شكري القوتلي للرئيس جمال عبد الناصر عندما تنازل له عن الحكم لصالح الوحدة بين البلدين : هيه .. أنت لا تعرف ماذا أخذت ياسيادة الرئيس ؟ أنت أخذت شعبا يعتقد كلُ من فيه أنه سياسى ، ويعتقد خمسون فى المائة من ناسه أنهم زعماء. ويعتقد 25 فى المائة منهم أنهم أنبياء، بينما يعتقد عشرة فى المائة على الأقل أنهم آلهة. أخذت ياسيادة الرئيس ناسا فيهم من يعبد الله ، وفيهم من يعبد النار، وفيهم من يعبد الشيطان، وفيهم من يعبد …وقال كلمة تتعلق بالمرأة لا يجوز وضعها على الورق. ونظر عبد الناصر إلى القوتلى وقال ضاحكا : لماذا لم تقل لى ذلك قبل أن أوقع الاتفاق بإمضائى؟!

دفع الشعب السوري ثمنا باهظا لهذه العبارات التي نقلها الصحفي المصري محمد حسنين هيكل عن الرئيسين الراحلين القوتلي وعبد الناصر في مقاله (بصراحة) في صحيفة الأهرام بتاريخ 27 أكتوبر 1961 وهي عبارات أخطأ الرئيس القوتلي في صياغتها لأنها أصبحت توصيفاُ غير دقيق لطبيعة البلاد وأهلها، وربما يكون منشؤها عند القوتلي نوعاً من الإنهاك أصاب القوتلي نتيجة ضغوط الحياة السياسية الوطنية والديمقراطية في سورية التي خاضها القوتلي في كفاحه السياسي والوطني بشجاعة، ومع ذلك أنا أعتبرها إساءة للشعب السوري.

مر على تلك الواقعة 64 عاماً بالضبط، وهي سنوات مريرة عانى السوريون خلالها  من السجون والخوف والموت والدمار والتنكيل والمنع والتهجير، وصرفت أموال هائلة على رقابتهم  وتضليلهم وخداعهم ثم على سحقهم بقوة السلاح، ودخل الملايين إلى المعتقلات وتم قهرهم وإذلالهم بطريقة لم يعرفها التاريخ السوري !

منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، يدفع الشعب السوري ثمنا لهذه الفكرة الخاطئة، التي تندّر بها كل السياسيين الذين حكموا فعايشوا الوحدة، أو الذين جاؤوا بعدها، فاعتبروها حقيقة وأساساً لفهم الشعب السوري ومكوناته، فحفظوها وكتبوها على أوراق وزرعوها بين صفحات كتاب (الأمير) لماكيافيللي الذي يضعونه تحت وسائدهم كما كتب رئيس تحرير النهار الأسبق ميشيل أبو جودة ذات يوم عن علاقة الحكام العرب بكتاب الأمير.

عبارات القوتلي لعبد الناصر، شكلت قلقاً لمن حكم سورية من حيوية وتنوع وتشكيلة ومكونات الشعب السوري، تحول هذا القلق إلى كابوس، فظن الحكام أن الشعبُ غولٌ خفيٌ يكمن لحكامه في كل زاوية من زوايا التاريخ، لذلك أطلقوا العنان لرجال المخابرات للسيطرة عليه، وإخافته بدلا من أن يخافونه كما هو مزروع في داخلهم.

ولنا في أسماء من حكموا سورية ، من عبد الناصر نفسه إلى أمين الحافظ إلى نور الدين الأتاسي إلى حافظ الأسد إلى بشار الأسد دليل على ذلك، فقد نصبوا فزاعات المخابرات الرهيبة في أركان الدولة كعبد الحميد السراج وعبد الكريم الجندي ومحمد ناصيف وعلي دوبا ومحمد الخولي وفائق حويجة وغازي كنعان وبهجت سليمان وعلي مملوك وجميل حسن ورفيق شحادة ومحمد محلا و غيرهم..

كان الكسر الأول لتلك الحيوية عند السوريين في قرار حظر الأحزاب الذي أصدره عبد الناصر عام 1958، ثم حظر الصحف ، وتم تعميده بالدم في تصفيات معروفة في أقبية مخابرات السراج التي ستتسع فيما بعد مع حكم البعث. وكان في سورية أحزاب عريقة، بغض النظر عن الموقف منها كحزب الشعب والكتلة الوطنية وحزب الأخوان المسلمين وحزب البعث والحزب الشيوعي والاشتراكيين العرب.. وتشكل في مجموعها تنوعاً ديمقراطياً واسعاً دل على حيوية السوريين وتعايشهم تحت قبة البرلمان عندما كان مزدهرا رغم التناقض بينهم .

في 18 تموز عام 1963 قامت سلطة البعث التي استولت على الحكم في الثامن من آذار من ذلك العام بالإطاحة بحكم الانفصال، قامت بتصفية حلفائها الناصريين في ساحة الأمويين وتم ذبح العشرات منهم ، واستفرد حكامها بالسلطة ثم بدأوا الصراع فيما بينهم، وكأنهم يمهدون لظهور (الديكتاتور المنتظر) الذي سيحكم سورية طويلاً بالحديد والنار..

أبقوا حزباً واحداً هو حزب البعث، فتحول إلى كابوس سياسي على الأمة، إلى الدرجة التي كره فيها الناس أهدافه الجميلة التي اختبأ وراءها، فقامت أجهزة مخابراته التي بناها بعض الضباط بسرعة باستبعاد رموز سياسية هامة كأكرم الحوراني وصلاح البيطار وميشيل عفلق، ثم قضت على أمين الحافظ وسليم حاطوم وعبد الكريم الجندي ومحمد عمران، ثم قضت على صلاح جديد ونور الدين الأتاسي ويوسف زعين وابراهيم ماخوس..

وكان الضابط حافظ الأسد (هو الديكتاتور المنتظر) الفائز بغنيمة الصراع داخل الحزب الواحد بعد أن قضى على خصومه، واتضح أنه كان وراء كل تلك التصفيات.. وهكذا قضي الأمر، وبدأت مسيرة حكم الفرد التي استمرت وورثت إلى الابن حتى عام 2024.

هل جاهر الأسد في بدايته  بمشروعه الديكتاتوري، أبدا لم يفعل !

أعاد الأحزاب ودعاهم إلى توقيع ميثاق جبهوي للمشاركة في الحكم مقابل تأييد، وعندما نكص عن مفهوم المشاركة،  خرج الدكتور جمال الأتاسي القادم من الحقبة الناصرية بعد أن اكتشف الحقيقة فعارضه، ثم تراجع، وتحت التهديد صمت وانكفأ في عيادته من دون ظهور سياسي.

أما الباقون فقد ترددوا، ولكي يتدارك ردود فعلهم، مزق أحزابهم بانشقاقات متتالية، ثم وضعه الأحزاب الباقية على ولائه في بناء خاص يشبه المتحف السياسي السوري وعلى مدخله لافتة تحمل اسم الجبهة، وعندما سقط النظام في عام 2024 سرقت محتوياته كلها من قبل الرعاع وكان لكل حزب ثلاث غرف ودورة مياه وبوفيه تشبه سجنا حضاريا مفتوح الأبواب..

هناك عبارة معروفة قالها حافظ الأسد تشير إلى عوامل الخوف من الشعب السوري، وجاءت في حديثه لأحد الصحفيين الغربيين مضمونها أن الشعب السوري كله يتحدث بالسياسة، (لاحظوا جذر المسألة عند القوتلي) وأظهرت تلك العبارة مافي لاوعيه السياسي من خوف كامن عنده من حيوية الشعب السورية وإرادته، لذلك سعى ليكون كله من لون واحد بعبارة أخرى قالها في أحد خطاباته، (كل مواطن سوري هو بعثي بالفطرة)، وعندها وضع كل السياسيين المعارضين في السجون ولاحقهم وقتلهم ونفاهم.

وهكذا كُسر التنوع السياسي، وظل حزب الإخوان المسلمين أكبر الأخطار القادمة من مكونات هذا الشعب، التي خاف منها حافظ الأسد، فاستدرجه إلى المذبح وقتل وشرد وسجن ونفى كل مايتعلق به إلى الدرجة التي أصدر فيها قانون بإعدام من ينتمي إليه، ووصل الأمر إلى التفكير بإغلاق المساجد لولا تدخل المفتي العام   وقتها، وكان الغطاء السياسي لذلك هو التصدي لمؤامرة الرجعية العربية وكامب ديفيد والامبريالية على نظام حكمه .

في مطلع الثمانينيات، كان يجتمع مع قادة الأجهزة الأمنية ساعات طويلة، وكانت توجيهات (سيادته) كما قال لي أحد ضباط المخابرات في التحقيق معي (مظهر فارس) في سحق كل أعداء (البعث)، وقال نحن لم نستول على الحكم لنعطيه للآخرين ونفرط به تحت حجة الديمقراطية .. لن نفعل ذلك أبداً.

في تلك الحقبة، ومع زج عشرات الألوف في السجون بحجة التعاون مع الإخوان المسلمين، تابع حافظ الأسد تصفية الحياة السياسية، فاعتقل رياض الترك الاشتراكي الديمقراطي المنشق عن الشيوعي خالد بكداش، واعتقل بقايا جماعة صلاح جديد (حزب البعث الديمقراطي) واعتقل كل رابطة العمل الشيوعي واعتقل كل الناصريين المجددين وكل البعثيين المؤيدين لصدام حسين كما اعتقل رموز النقابات (الدكتور المهندس كرامة بدورة وغيره)، وكانت الخاتمة في حماه بمذبحة كبرى، وفي حي المشارقة بحلب..

وفي خطوة مماثلة اعتقل كل التيارات الفلسطينية التي تحمل بذور معارضته، واعتقل كثيرا من الضباط وكثيرا من رجال الدين، وبعض زعماء العشائر، ولم يهدأ إلا عندما داهمه المرض واقتربت النهاية ..

وقبل أن يرحل عام 2000، أحدث انفتاحاً ضيقا في شق الباب ليهيء الحكم إلى ابنه، فأطلق سراح العشرات من كل الأطياف من بينهم الشيخ خالد الشامي الذي غادر البلاد إلى لندن..

شهدت صالة سينما الشام قبل وفاته بأسابيع (في تأبين عبد الغني قنوت) تواجد عدد من المعارضين ومن الخارجين من السجن (عبد الغني عياش، رياض الترك، فاتح جاموس، عبد العزيز الخير، أصلان عبد الكريم)، وكان مصطفى طلاس حاضرا، وظن الناس أن انفراجا سياسياً كبيراً سيحصل، لكن وصول بشار الأسد إلى الحكم أغلق الشق الضيق بعد فترة قصيرة، وأعاد الجميع إلى السجون واستكمل عملية التدمير بعنف أشد، وقام الشعب السوري، الذي لم يصبر طويلاً، بالخروج كالطوفان إلى الشوارع عام 2011 يطلب التغيير.

نحن السوريون، لم نكن أولاد حرام، ولا كان أغلبنا يريد الزعامة، ولا أحد منا ادعى الألوهية أو النبوة، على العكس تماماً كانت الحيوية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية محفزا لظهور القامات والنخب، وهي ظاهرة طبيعية في المجتمعات المنفتحة المرنة تاريخياً في انتماءاتها وتجاراتها واقتصادها وعقائدها، فإذا كانت النخب هي هذه التي كان يقصدها القوتلي في رغبتها في الزعامة، فهذا من حقها، وهذا طبيعي في حياة المجتمعات، أما أن تُسحق وتُسرق وتُكبل وتُقتل على هذا النحو ، فهذا يعني أننا في عصر الخوف، ولا أظن أن القوتلي كان يتوقع هذه المأساة التي امتدت أكثر من ستين عاماً، ولو كان حياً وشهد ماحصل لخرج مع الشعب السوري مؤيداً لمطالبه عام 2011.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى