لماذا لا تتطوّر الدراما في بلادنا؟

 

يسأل كثيرون، لماذا لا تتطوّر الدراما في بلادنا؟ تشهد صنعة/حرفة الدراما في بلادنا طفرات نجاح بين الحينة والأخرى؛ لكنها طفراتٌ لايمكن المراكمة عليها -للأسف- ولو إنّها عاشت لسنوات. تكمن المشكلة الحقيقية في أنَّ هذه الصنعة، لا تستحق بالنسبة لكثيرين تلك الأهمية التي يجب أن تعطى لها.

1عقلية المنتج المحلي؛ قصر النظر كما النفس: لدى المنتج، الذي يضعه ماله لتحريك عجلة الإنتاج الدرامي في السينما أو في التلفزيون رغبةٌ واحدة فقط لا غير: أن يحقق ربحاً سريعاً. هو لا يريد البتة أن يصبر على الأمر، أن يرعى «زرعةً» ما. هو يريد «عجلاً سميناً يذبحه» على عَجَلْ لتحصيل ما دفعه أضعافاً. يأتي معظم صنّاع السينما/ المسلسلات في بلادنا من مشارب تبتعد ابتعاداً كلياً عن الثقافة: كتجار المواشي، والجلود، بل إن بعضهم لا يشاهد الدراما، ولا يعرف القراءة والكتابة حتّى (معلومة حقيقية). في ذلك لا مشكلة: معظم صنّاع الدراما الأوائل في هوليوود كانوا كذلك يوماً ما؛ إلى أن تنبّهوا إلى أنَّ هذه الصنعة تنتج الكثير من المال؛ فطلقوا مهنهم الأولى، وأصبحوا «سينمائيين» بالكامل. في المعتاد، كي تبني «دراما»، عليك أن تعمل بهدوء، لإنتاج بيئة درامية مناسبة، وقد كانت التجربة السورية قبل الحرب على سوريا تجربة تستحق القراءة: إذ إنه تظافرت عوامل عدة لخلق صناعة جيدة، لكن الحرب دمّرت كل هذا وأعادت الصنعة عشرات السنين إلى الوراء، ويكفي أن نشير إلى أنَّه في العام الحالي تقريباً لا مسلسل سورياً «منافساً» من أي نوع. المنتج يرغب بأن يربح بسرعة، والصنعة تحتاج سنواتٍ وسنوات: لذلك يقوم معظم المنتجين بإنتاج مسلسلاتٍ غب الطلب، سخيفة، بلا مضمون، تبتعد عن أي «هم» شعبي/ سياسي إلا بمقدار ما تريده «القنوات الشارية». ينسى هؤلاء المنتجون أنهم حينما يستثمرون في هذه الصنعة، فإنهم يستثمرون في أرباحهم؛ فعمل درامي كمسلسل la casa de papel أو dark حققا أموالاً طائلةً لمنتجيهما لسببٍ بسيط: الحرفية العالية قبل أي شيء؛ على الرغم من أنهما من لغتين «صعبتين» وغير مطروقتين بالنسبة للمشاهدين (الإسبانية والألمانية).

2المشاهد الشرقي غفورٌ دوماً: المشاهد في المعتاد في عصرنا الحالي، ملولٌ سئم، وهذه سمة المشاهدين في كل الكوكب؛ لكن المشاهد المشرقي/ العربي يمتاز عن هؤلاء جميعهم بأنه «مسامح». أضف التسامح إلى الملل ينتج مشاهداً يعتبر «باب الحارة» أقصى أمانيه. لا مشكلة حقيقية في مسلسل «باب الحارة» بجزءيه الأوّل والثاني سوى: التكرار، الصورة النمطية «الوهمية والكاذبة» للمرأة كما للرجل، تزييف التاريخ كما الواقع، والتمثيل المبالغ فيه للممثليين الرئيسيين للعمل، فضلاً عن قاعدة «لا تمثيل» لممثلي الكومبارس. كل هذه الأخطاء يتنبه لها المشاهد ويعرفها. ومع هذا لـ «قدرته على المغفرة»، يمر على الأمر، ويتابع حتى إعادات المسلسل الدائمة. هنا يصبح المشاهد المدافع الرسمي عن العمل مدافعاً عن الأخطاء كما لو أنّها لم تحدث. خذوا مثلاً مسلسل 20 20 هذا العام، وشخصية سعاد (أدتها ماريتا الحلاني). ترسم الحلاني شخصية سعاد على أنّها خجولة، مترددة، خائفة، تخشى حتى مجرد نظرة الآخرين لها. فجأة -دون أي انذار- في يوم عرسها ترقص «سعاد» بطريقةٍ مبتذلة وسوقية للغاية. في حرفة الدراما، هناك بناءٌ للشخصية، لا يسمح نهائياً بانتقال الشخصية من «مكان إلى آخر» بدون تبرير ومنطق. لكن الجمهور «الغفور والمدافع»، سرعان ما يجد السبب: لقد قالوا في السابق أنّها قد يمكن أن تكون قد عملت في الدعارة. جيد؛ لكن لماذا لم يبن عليها أي من صفات «العاملة في الدعارة» في أي حلقة من السابق، فيما ظهرت بعض هذه الصفات عند زميلاتها؟ هل سلوك «العاهرة» هو «واحدٌ» دائماً وأبداً؟ هل «خلقت» منذ طفولتها عاهرة، بالتالي فإن سلوكها «نمطي/ معتاد»؟ ألم يكن من الأفضل لصناع الدراما تمرير تلميح ولو بسيط، كي لا يفاجأ المشاهد؟ صناع العمل يعرفون جمهورهم جيداً: سيدافعون عن العمل؛ لذلك لن يبذلوا أي جهدٍ إضافي. الجمهورُ المشرقي العربي كفيل بإكمال الصورة مهما كانت رديئة.

3لا نقاد، كلٌ له ثمن: نحنُ حضارةٌ لا نؤمن لا بالنقد، ولا بتفعيله، كما إن أي انتقاد لأي تفصيلٍ في أي عملٍ نقوم به، يصبح انتقاداً شخصياً، نأخذه على عاتقٍ شخصي، بدون أي رغبةٍ في الإصلاح. بدون «نقد» حقيقي لا يراعي «فلان» و«علاّن»، فإن المصيبة واقعةٌ واقعة. «يربّي» النقد صنّاع الدراما، ويجعلهم «خائفين» من القيام بأخطاء تدل على «الكسل» أو «قلّة الجهد» وهو أقل الواجب. فالناقد الدقيق والمهني والتقني -وهو تقريباً مفقود في عالمنا العربي- يضيء على الأخطاء التي كان يجب على صناع الدراما تجنّبها، كما يرشد إلى الطريق الأفضل -إذا ما استطاع-. بغياب النقد الحقيقي، بغياب من يجعل «الممثل» الكسول، الذي يمثل بلا مراعاة لمتطلبات الشخصية، كما فعلت نادين نجيم مثلاً في 20 20 حينما نسيت أنّها «عملت عمليات تجميل» لا تناسب شخصية «حياة»، أو غادة عبدالرازق في «لحم غزال» حينما وضعت “مكياجاً ثقيلاً يناسب السهرات وهي مجرد «بائعة» في المسلسل، أو شكران مرتجى في «الكندوش» حينما نسيت «الهوليوود سمايل» على وجه فتاة جائعةٍ لإم بخيلة.

4الأساتذة لا صوت لهم، والموهوبون على الهامش: لدينا -وعلى عكس ما يعتقد كثيرون- أساتذةٌ في مجال صناعة الدراما. لن أذكر أسماءً لكنهم معروفون، سواء في سوريا أو مصر أو حتى لبنان. يحارب هؤلاء الأساتذة والموهوبون لأنّهم يطلبون الكثير لا أتحدث مادياً، بل أدائياً/ مهاراتياً/ تقنياً. فالكاتب/المخرج الماهر أو «الأستاذ» كما نسمّيه: يرفض تماماً «كسل» ممثليه، أو عدم تحضيرهم الجيد، أو حتّى عدم قدومهم إلى التصوير على الوقت. كل هذه المشاكل لا يريد المنتج السماع عنها. فهو قد دفع المال كي ينتج المال، هو أحضر هذا «النجم/ النجمة» -الكلمة الفضفاضة التي لا تعني شيئاً في بلادنا- لذلك إن اغضاب هذا النجم/النجمة مرفوض تماماً. هنا من الممكن أن يطرد «الأستاذ» لأن النجم/النجمة «متضايقة» منه لأي سبب. سرعان ما سيصبح هذا الأستاذ persona non grata شخصاً غير مرغوب فيه في جميع الأعمال، إلى أن يصبح معزولاً تحت منطق: «بيحلم».

5لا مدارس متخصصة في الكتابة. واحدةٌ من أهم أزمات الدراما المشرقية/ العربية هي غياب كاتبٍ درامي حقيقي وقادر. فمنذ غياب المبدعين الأوائل أمثال أسامة أنور عكاشة، واعتكاف بعض المبدعين أمثال ممدوح حمادة؛ أصبحت الأسماء التي تكتب الدراما إما لا تفي بالغرض، وإما نصوصها سطحية لا تستطيع تقديم دراما حقيقية. في الغرب، تطوّرت الكتابة إلى حدٍ كبير، فأصبح صنّاع الدراما يتكئون على ما يسمّى بورشات الكتابة، ونظرية ghost writers حتى إن معظم المسلسلات الحديثة صنعت بهذه الطريقة؛ لم يعد هناك كاتبٌ أوحد نهائياً تقريباً. طبعاً هذا لا يعني غياب مايسترو رئيسي ينظم ما كتب. حصلت بعض المحاولات ولا تزال لإدخال «ورش» كتابة السيناريو أو الدراما في بلادنا، وهي لا تزال فتية، لكنها بالتأكيد أفضل من نظام «الكاتب الواحد» التي باءت بالفشل بعد مرحلة الكتّاب الأوائل.

في المحصّلة، هناك صنعةٌ درامية ضروريةٌ وملحّة؛ لكن هذا لا يتنبه له معظم صناع الدراما حالياً. هذا التنبه سرعان ما سيحدث لاحقاً، وقد يكون الوقت قد فات ساعتها: ذلك أن الدراما التركية التي تتطوّر بشكلٍ مطرّد وسريع ستأكل الأخضر واليابس لاحقاً، فضلاً عن أنّ مسلسلات نتفليكس بدأت تجد لنفسها أرضاً عند الجمهور العربي/ المشرقي، باعتبارها أكثر «احترافاً» و«صدقاًً» من مثيلاتها العربية.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى